نبذه عن قرية ناوا
________
من كتابات الدبلوماسي والشاعر الراحل سيداحمد الحردلو له الرحمة أن شاءالله
_________
*ناوِي – ناوه – ناوا*
*بقلم سيداحمد الحردلو*
أستأذن اليوم أولئك الذين – تواضعا منهم وكرما – يتابعون هذه السلسلة من الذكريات والمذكرات ، ويتصلون ويتواصلون معي تعليقا وترحيبا بها ، استأذنهم لأعود بهم الى البدايات الاولى لنشأتى وطفولتى فى مسقط رأسي ناوا ، والتى هي من اعمال مركز دنقلا (ودنقلا تعنى ’’الشمس المشرقة‘‘) بالنوبية القديمة ، كما حدثنى ذات مرة المؤرخ الكبير جعفر ميرغنى ، والذى ما زلت أتمنى ان ينشر ما كان يتفضل به فى الإذاعة عن تاريخ السودان القديم ، فى مجلدات توثق لذلك التاريخ العظيم والذى يجهله كثيرون من أهل السودان قبل غيرهم من شعوب الارض ! .
* فنحن – كما ظللت اعيد وأكرر وأعيد – نثرا وشعرا – سادة الحضارة الاولى فى الدنيا ، وإن كان هناك من بعض الاشقاء من يحاول طمس أو اخفاء هذه الحقيقة حتى فى كتب تاريخهم ومناهج تعليمهم ، ناسين أو متناسين ان الحقائق بتاريخها ما تزال مطمورة فى باطن ارض السودان الشاسعة .. الواسعة والمهومة كالخيال والاحلام الجميلة ! .
* ويكفى أن معرضنا الاثرى والذى كان يتجول منذ سنوات فى اوروبا وامريكا والذى اثار ضجة تاريخية واثرية ضخمة وفخمة فى تلك الانحاء من ان تاريخ الحضارة فى السودان قد بدأ قبل أكثر من مائتى الف سنة ! هذا المعرض الكنز والثروة القومية – لست ادرى اين هو الآن !؟ هل ما يزال يتجول منذ اعوام فى العالم ، أم سرقه سارقو اثار العراق وقبلها آثار مصر ، بل هنا فى شمال السودان حيث حدثنى ابن اخى المهندس عماد محمد الحردلو ، احد مسئولى مطار مروى الجديد (أن طائرات كانت تهبط فى ذلك المطار القديم ينزل منها خواجات يطوفون ’’بلا عين تراقبهم‘‘ حول تنقاسى ومروى ونورى والبركل ، ثم يحملون حقائبهم المدججة بما لذ وطاب من آثار ثم يغادرون الى حيث جاءوا ، والى حيث لايعرف احد!) واسأل الآن وبالصوت العالى (أين ذلك المعرض الكنز والثروة القومية ، الذى ظل يتجول منذ سنوات ، هل عاد للسودان سالما كاملا مكملا .. أم انه سقط فى بحر الظلمات..!!؟) .
-2-
* إننى أبدأ بالحديث عن ناوا قبل اكثر من نصف قرن ، كما شاهدتها وعشتها ، فقد كان اسمها جزيرة شرق ناوا ، وكان النيل ينشطر شطرين ، احدهما هو النيل الحالى ، الذى ينساب غرب ناوا شمالا ، والآخر كان يدلف من دنقلا العجوز والغدار بسهل يمتد من هناك متجها شمالا شرق حوض لتى الممتد من الغدار الى ناوا ثم غرب قرية ود عباد الحالية ، حيث قبب شيوخنا وأولياء الله الصالحين ، وقبور ناوا ، ثم يواصل ويتواصل النهر شرق احياء ناوا شمالا حتى يصل الاتر (اتر النبيَ) (الذى سيجئ الحديث اليه لاحقا) ثم يدلف الى تمر العرب ثم ينحنى غربا فيصب فى النيل الكبير ، كان ذلك قبل مائتين وخمسين الى ثلاثمائة سنة ، ثم نضب أو اختفى ، ربما بفعل الطبيعة وتحولات النيل ! .
-3-
* كان تأريخيا اسمها (ناوِى) بكسر الواو والياء المعرجة ، لكننى وأنا فى المدرسة الوسطى لم تكن تعجبنى هذه الكسرة ، فصرت أكتبها (ناوه) بالهاء ، وحين بدأت أكتب الشعر خاصة فى الوسطى والثانوى حولت (الهاء) (الفا) فأصبحت (ناوا) فصار أهل ناوا يكتبونها بالالف ، ثم انتقل ذلك الى مدارسها ومغتربيها ودواوين الحكومة ، وأجهزة الإعلام وعموم السودان !.
* كان يشغلنى فى طفولتى ويزعجنى الى درجة الهوس ما يشاع عن ناوا من أنها بلد (السحاحير!) أي أكلة لحوم البشر ، كان كبارنا يحذروننا من الخروج بعد المغرب من بيوتنا ، لأن (دارة) السحارة تعشق أكل الاطفال ، وكانت دارة عليها رضوان الله ، امرأة فى خمسينياتها ، فى حالها ، لاتؤذى ولا تضر احدا ، كانت تسكن لوحدها فى بيت صغير بعيد عن بيوت الآخرين وقريب من النيل بين ساقيتى عمى على خالد وساقية ود محمود ، صحيح انه كان هناك سحرة يسحرون بالعين ، وآخرون بالتشبيهات ، ولكنهم كانوا قلة ورحلوا .
* ذهبت طالبات مدرسة ناوا الاولية الى مروى للإمتحان للمدرسة الوسطى ، وكانت فيهن شقيقتى آسيا ، ولكن طالبات المدارس من دنقلا الى مروى رفضن البقاء فى داخلية واحدة معهن خشية أن تأكلهن بنات ناوا ، فأخذ مدير المدرسة طالبات ناوا الى بيت مظلم لاضوء فيه ، ولا رتينة ولا حتى فانوس ، وكانت معهن مديرة مدرستهن ، وكن ينمن الليل من الخوف ، بمن فيهن المديرة ، قضين عدة ايام هكذا ، وهن فى خوف وهلع ، وجاء الامتحان ولم تنجح واحدة فيهن ! .
* وهكذا وجدت نفسى وأنا فى الثانوى أطرق باب الإذاعة وبعض ابواب الصحف ، لأتحدث وأكتب عن فرية وإشاعة سحاحير ناوا ، بل إن أحد الشعراء كتب – وهو ليس من ناوا يقول لحبيبته :
(الله من خلانى سحار
من سحاحير ناوى الكبار
كت الفك لف السجار
وكت اقطع بيكى البحار) .
-4-
* كنت اقول للناس وأحكى لهم قصة الفتها دفاعا عن ناوا من أن فرعون مصر استعان بسحرة من ناوا ، فى محاولة يائسة ليتحدى بهم نبيَ الله موسى عليه السلام ، إذ كنت أقرأ وأعرف أن ملوك الممالك القديمة كانوا يستعينون بالسحرة ضد أعدائهم ، لكن فريتى تلك – ولدهشتى – طلعت صحيحة ، وحمدت الله الفا على ذلك .
* كنت أزور مكتبة فى تونس فى ثمانينات القرن الماضى ، وكنت ابحث عن بعض الكتب ، فالتقيت مصحفا جميلا وضخما على مكتب صاحب المكتبة ، وجلست اقلب فيه فقد راقتنى أناقته وحروفه الكبيرة ، وشروحه الوافيه المستفيضة ، فقرأت ما يكاد يقول الآتى : (كانت بلاد النوبة القديمة مشهورة بكثرة السحرة فيها ، فأرسل فرعون مصر الى ملك النوبة يطلب إليه إرسال عدد من امهر السحرة لديه ، وبالفعل فإن ملك النوبة ارسل اليه عدد من احذق السحرة من بلدة نوبية تدعى ’’ناوِى‘‘ ! وقد استعان بهم الفرعون ضد سيدنا موسى ، فألقى بعضهم بعصيهم فإذا هي حيات تسعى ، ثم ألقى سيدنا موسى بعصاه ، فإذا بها حية ضخمة تبتلع حيات السحرة النوبيين ، والذين أعلنوا اسلامهم وانضموا الى سيدنا موسى! ، (لاحظ معي أن ’’ناوا‘‘ مكتوبة ’’ناوِى‘‘ بكسر الواو والياء المعرجة!) .
* قلت للشيخ صاحب المكتبة (أريد نسخة من هذا المصحف) لكنه صدمنى بقوله : (إنها النسخة الوحيدة ، وهي ليست للبيع ، لأنها هدية من صديق مغربى عزيز عليَ ، والهدية لاتباع ولاتشترى!) سألته (هل هناك امكانية لتتصل به ليرسل نسخة أخرى!) قال (نعم . ولكن لماذا لاتشترى مصحفا آخرا؟) قلت (إننى أريد هذا المصحف بالذات) فرد بأننى سأتصل به ليرسله ، فهل أنت مقيم فى تونس ؟) فقلت : (بلى ، ولكن الوقت قد أزف للمغادرة!) وأضطررت لمغادرة تونس قبل أن يصله رد من صاحبه !
* ثم أروى حكاية أخرى عن أسم ناوا التأريخى ، كنت أزور الملحق العسكرى السعودى قبل سنوات عشر فى ملحقيته العسكرية بشارع 35 بالعمارات العميد فيصل المشهور بـ(ابوترك) وهو شخص احب السودان وبادله السودان حبا ، فوجدت خارطة للسودان امريكية على شاشة الكمبيوتر امامه ، فقلت له (هات ناوا) فسألنى (أين تقع؟) فقلت (بين مروى ودنقلا) وجاء بها ، وكانت اسماء جميع مدن وقرى السودان ومجارى السيول وقيزان الرمل والنخيل والغابات والنيل والانهار ، من حلفا الى نمولى مكتوبة باللغة الانجليزية ، طلبت منه أن يكبر خارطة ناوا والنيل والجزر التى امامها ، وأول ما لاحظت أن ناوا مكتوبة هكذا (NAWI) أي (ناوى) بالكسرة والياء المعرجة ، وأمامها جزر (أرت رما) أي الارض السوداء ، وبسلان ، وأريته مكان بيتنا فى ناوا ، ثم قلت له (هات خارطة اركويت) فجاء بها ، وأريته مكان بيتى فى اركويت ، وطلبت منه ان يقيس المسافة بينهما فقال (350 كيلو متر) ثم طلبت منه أن يقيس المسافة بين بيتنا فى تنقاسى السوق وبيتى فى اركويت فقال (أيضا 350 كيلو متر) والغريب أن المسافة بين ناوا وتنقاسى لاتزيد عن المائة كيلو متر بسبب منحنى النيل ! .
إن سافرت من ناوا شرقا عبر الصحراء ، فتلقاك الكرو ، وتعبر النيل الى تنقاسى ! .
* ترى .. هل أخطأت حين غيرت اسم ناوا من (ناوى الى ناوا !؟) إن كان كذلك فليغفر الله لى وبعده أهل ناوا والتاريخ ! .
* ترى .. لماذا يورد الامريكان فى خرائطهم كل هذه التفاصيل الصغيرة والدقيقة ، مثل مجارى السيول مثلا .. والجزر الصغيرة مثلا .. وقيزان الرمل مثلا … !؟ .
* لماذا يعرفون عنا كل شئ .. ونحن لانعرف عنهم قليل شئ !! .
* لابدَ أنك ستجد الإجابة عند الغافلين منَا … وما أكثرنا !!؟ .
الخرطوم 4 يوليو 2007م
سيداحمد الحردلو
ناوا
ناوا حديقة كرنفال
ناوا
جمال … لايقال
عمرى يباح
للحظة قمرية
عند التلال
تنداح آفاق الندى
والطيب
يهمرها وصال
قلبى هناك تركته
طفلا
يغازله الجمال
يعدو وراء حمامة
ويلوب
فى نفضات شال
فى الطنضبات
مغلغلا
خلف الشياه .. بلا كلال
فى ريش دوبيت
سبوح ..
فوق كثبان الرمال
قلبى هناك معلق
فى نخلة …
عند الزوال
فى ضفة النيل
الكريمة
كان يحلو المجال
لما ادور
مع السواقى
قافزا فوق الحبال
واطير خلف فراشة
وأعوق فستان (أمتثال)
أهدابها..
كانت كلون الحقل
خضراء الظلال
لما تخاصمنى
اموت من الاسى
حتى الوصال
كم طرزت اوقاتنا
بطفولة المرح
الحلال
الله يرحم عهدنا
الذخار …
بالذكر الطوال
ناوا
شرايينى .. حقول هواك
صفراء الغلال
قمرية سرحت هنا ..
فارتج فكرى ..
الف بال
فى حوض (لتى)
كم ركضنا ..
كم عشقنا ذات خال
الله ..
يا أهدابها …
فى الخد .. كم ألقت ظلال
وعلى جواد ..
من جريدات
طوال
كنت أزهو
مثلما يزهو ..
ابوزيد الهلال
وخرافنا
بيض وسود
كانسراحات الخيال
حينا تفر …
ولحظة …
تتفيأ العطر .. ظلال
فى الحقل
كم غافلت فلاحا
لألثم برتقال
كم مرة
بالنجم
عبأت السلال
وارتاع بدر ابيض
فهوى على صدرى
وسال
وستأثر الغرب
الصبيغة
ترمى نبع اخضلال
الله
كم غمست انفاسى
بانداء الشمال
والشرق
يفتح بابه متثائبا …
والضوء مال
وغناء مئذنة
يشق الصمت
يغرقه ابتهال
ناوا …
بلاد الطيب … الاخضر
فى باب الشمال
أنا ساجد
فى راحتيك
أشم أخبار الجمال
علمت قلبى
أن يغنى
أن يكون …
وأن ينال
أخبرتنى أمجاد ارضى
كيف أمتشق النضال
يا أرض ميلادى
غرامى …
فوق تخمين الخيال.
سيداحمد الحردلو .
وادى سيدنا الثانوية 1957م
________