عبد المنعم الكتيابي في سرد الخواطر …. وعشق امدرمان

95

عند ( العصاري ) يهبهب نسيم الأصيل اطراف الملاءات التي فُرشت لتوها في الحيشان الوسيعة المحاطة بجدران عنيدة تقاوم الفصول وهي تطل على أزقة عتيقة تروح وتجيئ وتفضي إلى بعضها البعض دون عنت أو كلل ..
هناك قومي يشدني إليهم رائحة النعناع وهي تشرئب إلى الأنوف من براد الصيني حين ينحني ليصب رحيقه في كوب زجاجي ( متمر وممستك ) يسمونه من باب التمليح والطرب ( عثمان حسين ) .. ويكتمل طقس الأصيل مع شاي( العصر ) باجتماع الآباء والأبناء والأحفاد ومن حضر من الجيران والضيوف والحديث ذو الشجون ، يتخلله صوت المذياع وكثيرا مايصادف الأنس ذاك حلقة جديدة من مسلسل إذاعي تعقبه نشرة أخبار وينصت الجميع عندما يقول المذيع في ختامها ( أيها السادة توفي …. ويعدد المراحيم بأسماء أقاربهم وصلة القرابة ويحدد مقابر كل واحد منهم ومكان العزاء إلى أن يقول تغمدهم الله بواسع رحمته ) فالكل يعرف بعضا من الموتى او ذويهم .. هكذا كانت الحياة تسير في هدؤ ودعة ..
وكانت مدينتي سيدة المدن في الوداعة والصخب ، في الدعة والشظف ، متسامحة حتى في ثنائياتها : ختمية و أنصار ، صوفية وسنة ، ، شيوعيون وأخوان مسلمون ، افندية وشيوخ ، هلال ومريخ ، مدائح وغناء .. لافرق بين عرق وعرق أو دين ودين ..
ياترى هل ستعرف المدينة ملامحي حين اعود إليها ؟ هل ستفهم لغتي ؟
لقد تغير كل شيء بين يوم وليلة ، نعم تغيرت لغتي نشيدا وغناء فمن ( عربا نحن حملنا ونوبه ) صار نشيدنا ( الحل في البل ) وتبعها قاموس تتصدره الخشونة والعنف حتى في ايقاع الكلمات ( فتك ، بتك ، ردم ، جغم ) حتى المزاج لم يعد هو هو ، فمن سايق الفيات وسايق البوباي انتقل إلى سايق الركشه تعال بي جاي ، وبدلا عن ( اهدي لي تفاحة بس او برتكانة ) إلى( اديني بنيه وإيه كدا ما عارف ) ، و(ابومروة ) صار اسمه ( اب جيقة ) والتي كالبانة يتمايل عودها اسمها ( صبجة ) والجنتل مان بدلا من يا استاذ او يا سيد صار ينادى بـ ( يا عمك وياخال ) ومن خطت نحو الأمومة لآداء رسالتها الأسرية والمجتمعية من آنسة أو سيدة صارت تنادى بـ ( ياخالة ) ..
ولذا ضاعت ملامحنا بين عشية وضحاها وسط هذا التيه الثقافي .. فصرنا لا نعرف بعضنا بعضا ، بل ضَعُفت أواصر الود بيننا ففسد في أدنى خلاف في الرأي ، وغاب حسن الظن وكثر التنمر ووجدت البندقية طريقها سهلا إلى صدورنا وعرفت الصواريخ شامخات المباني فهدتها بعد زوال ساميات المعاني ، فانهار كل شيء .. لم يجد نسيم الأصائل ملاءات على الأسرّة ليهبهبها ، بل لم يجد جدرانا يصافحها أو أبوابا يكتب عليها حضرنا ولم نجدكم ..
تحطم المذياع فلم نعرف من مات وأين دُفن ، ولم تٌنصب سرادق للعزاء ..
وتفرق الجميع وبقي النيل وحيدا بلا سمار ولا ندمان ..
ونجا من نجا وفي نفسه شيء من اسى وابتلعت الصحاري هياكل من ضلوا الطريق إلى النجاة اما القرى الآمنة شرقا وغربا صارت لا تعرف شرقها من غربها واين ذهب أهلها الذين عمروها ومن أين اتى من دمروها ..
فابكِ يابلدي الحبيب ..

عبدالمنعم الكتيابي

Leave A Reply

Your email address will not be published.