تقرير : السياسات الاقتصادية الأمريكية: إعادة تشكيل للاقتصاد العالمي

243

 

 

العدد الأسبوعي رقم 204  –  الجمعة 20 يونيو 2025
السياسات الاقتصادية الأمريكية: إعادة تشكيل للاقتصاد العالمي

اضغط هنا لتصفح النشرة من الموقع

صباح الخير قراءنا الكرام،

في 20 يناير 2025، وخلال حفل تنصيبه لولاية رئاسية ثانية، تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن تكون “المئة يوم الأولى من عهده هي الأكثر استثنائية في تاريخ الولايات المتحدة”. وقد اتضح لاحقًا أن هذه العبارة كانت مقدمة لفترة من أكثر الفترات التي شهدت نقاشًا واسعًا في الأوساط السياسية والاقتصادية الأمريكية.

منذ الأيام الأولى لتوليه الحكم، شرع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تنفيذ أجندة طموحة تمثلت في إصدار عدد غير مسبوق من الأوامر التنفيذية، بلغ عددها ما لا يقل عن 161 أمرًا خلال فترة وجيزة، في مشهد يذكّر بانطلاقة الرئيس فرانكلين د. روزفلت في عام 1933، عندما عقد جلسة استثنائية للكونغرس لمواجهة تداعيات الكساد الكبير.

تركزت معظم هذه الأوامر على إعادة هيكلة السياسات الاقتصادية الأمريكية بشكل جذري، مع إيلاء اهتمام خاص لتعزيز قطاع الطاقة التقليدية، لا سيما النفط والغاز، من خلال توسيع عمليات الاستكشاف والإنتاج وتخفيف القيود البيئية. كما تبنى ترامب سياسة تجارية حمائية متشددة، تمثلت في فرض رسوم جمركية مرتفعة على واردات العديد من الدول، وبشكل خاص على الصين، في محاولة لإعادة التوازن إلى الميزان التجاري الأمريكي.

إلا أن هذه الإجراءات أثارت تداعيات اقتصادية عالمية سريعة. فقد أسهمت السياسات الحمائية في توقعات بتباطؤ معدلات النمو العالمي، وارتفاع أسعار العديد من السلع والخدمات، وتراجع ثقة الأسواق في استقرار الاقتصاد الأمريكي والدولي على حد سواء. كما دفعت هذه التطورات العديد من الحكومات حول العالم إلى التدخل المباشر في اقتصاداتها، بهدف حماية الصناعات المحلية والحفاظ على الأمن الاقتصادي القومي.

واتصالًا، عُقدت قمة مجموعة السبع في دورتها الحادية والخمسين خلال الفترة من 15 إلى 17 يونيو 2025، في بلدة كاناناسكيس الكندية، حيث اجتمع قادة الدول السبع الكبرى لمناقشة أبرز القضايا العالمية الراهنة. وعلى الرغم من أن الملف الاقتصادي والتوترات التجارية، شكّل محورًا رئيسيًا في النقاشات، فإن أجواء القمة خيّمت عليها تداعيات المواجهة المشتعلة بين إيران وإسرائيل، التي فرضت نفسها كأولوية طارئة على جدول الأعمال.

وقد أضفت هذه المواجهة، مستوى جديدًا من الضبابية وعدم اليقين على المشهد الاقتصادي العالمي، حيث باتت تمثل تحديًا جيوسياسيًا واسع النطاق يهدد أمن الطاقة واستقرار الأسواق المالية. ومع تزايد المخاوف من توسع رقعة النزاع أو تدخل قوى دولية، تتنامى احتمالات اضطراب سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار النفط، وتراجع الثقة الاستثمارية، وهي عوامل تنذر بدفع الاقتصاد العالمي نحو مزيد من الاضطراب.

اضغط هنا للتواصل معنا

منذ اليوم الأول لتوليه الولاية الثانية، أوفى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتعهده خلال حملته الانتخابية بالتحرك السريع لمعالجة ما يعتبرها قضايا جوهرية، متبنيًا نهجًا تنفيذيًا مكثفًا وغير تقليدي. فقد أصبح ترامب، بلا منازع، أسرع رؤساء الولايات المتحدة تحركًا في العصر الحديث من حيث استخدام صلاحياته التنفيذية، إذ أصدر عددًا غير مسبوق من الأوامر التنفيذية المُلزمة قانونًا. وخلال المئة يوم الأولى فقط، تجاوزت قراراته التنفيذية ما أصدره أي رئيس أمريكي آخر خلال الفترة نفسها في القرن الماضي، بل إن عددها تجاوز نصف ما أقره في كامل ولايته الأولى، ونحو 90% من مجمل ما أقره سلفه جو بايدن خلال أربع سنوات كاملة.

تميز عدد كبير من هذه الأوامر بأهميته الاستراتيجية، ففي اليوم الأول من الولاية الثانية، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرسومًا يقضي بانسحاب الولايات المتحدة مجددًا من اتفاقية باريس للمناخ، بحجة تحرير الاقتصاد من قيود “غير منصفة” تعرقل إنتاج النفط والغاز محليًا. وقد عبّرت هذه الخطوات عن توجه أكثر صرامة نحو إعادة تشكيل البنية السياسية والاقتصادية الأمريكية.

لكن ما يجعل هذه الفترة الرئاسية متميزة ليس فقط سرعة التحرك الرئاسي، بل الطابع الجذري والممتد لقرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فلم يتردد خلال الفترة الثانية في اتخاذ سلسلة من القرارات الجذرية التي غيّرت ليس فقط معالم السياسات الداخلية للولايات المتحدة، بل امتدت آثارها لتطال الاقتصاد العالمي بأسره. إذ استأنف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياساته الحمائية بقوة، مدفوعًا بإيمان راسخ بأولوية الداخل الأمريكي على الالتزامات الخارجية، وهو ما انعكس بوضوح في قراره بتجميد نسب كبيرة من المساعدات الخارجية، وفيما يلي أبرز قرارات الإدارة الأمريكية التي تم تبنيها خلال الأشهر الخمسة الأولى من الولاية الجديدة (2025) لدونالد ترامب وتداعيتها على الاقتصاد العالمي.

المصدر

أولًا: تقليص المساعدات الخارجية وبرامج المعونة الأمريكية

شكّل قرار الإدارة الأمريكية بتقليص نسبة كبيرة من المساعدات الخارجية نقطة تحوّل استراتيجية في علاقة الولايات المتحدة بعدد كبير من دول العالم، لا سيّما الدول النامية التي لطالما اعتمدت على الدعم الأمريكي في قطاعات حيوية تشمل الصحة والتعليم والأمن الغذائي والاستقرار الإقليمي. وقد جاء هذا القرار في إطار رؤية جديدة لإعادة توجيه الموارد نحو الداخل الأمريكي، تحت ذريعة تحسين الكفاءة وضمان اتساق الإنفاق الخارجي مع أولويات السياسة الخارجية للرئيس. إلا أن تداعيات هذا القرار تجاوزت الطابع المحلي، لتُحدث اختلالًا في بنية الاقتصاد العالمي، لا سيما في الدول التي اعتمدت على هذه التدفقات المالية كجزء أساسي من موازناتها العامة.

أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا في 20 يناير 2025 يقضي  بـ”تجميد” جميع المساعدات الإنمائية الخارجية الأمريكية الجديدة لمدة 90 يومًا، بهدف مراجعة مدى كفاءتها واتساقها مع السياسة الخارجية للرئيس، يُلزم هذا القرار رؤساء الوزارات جميعًا، والوكالات الحكومية بوقف الالتزامات المالية والصرف الجديد لأموال المساعدات الموجهة للدول الأجنبية والمنظمات غير الحكومية والدولية والمقاولين، ويُكلف مكتب الإدارة والميزانية (OMB) بتطبيق هذا التجميد باستخدام سلطته في توزيع الاعتمادات المالية، في إطار إعادة تقييم شاملة لضمان توجيه الإنفاق الخارجي بما يخدم أولويات الإدارة الأمريكية الحالية.

وفي يوم 26 يناير 2025، أوقف الوزير ماركو روبيو “مدير الوكالة بالإنابة” جميع المساعدات الخارجية الأمريكية الممولة مؤقتا للمراجعة، وبحلول العاشر من مارس 2025 أعلن روبيو رسميًا، بإلغاء 83% من عقود المساعدات الخارجية الأمريكية وهو ما يعادل 5200 عقد من عقود المساعدات الخارجية، بدعوى أنها لم تحقق مردودًا فعليًا يخدم المصالح الوطنية الأمريكية، بل أضرت بها في بعض الحالات. في المقابل، سيتم توجيه النسبة المتبقية، والتي تمثل ما يقرب من 1000 برنامج، بأسلوب أكثر تركيزًا وفعالية وتحت إشراف مباشر من وزارة الخارجية.

ورغم أن قرار تقليص المساعدات يعد إجراءً ماليًا داخليًا يهدف إلى إعادة توجيه الموارد نحو الداخل الأمريكي، فإن تداعياته تجاوزت الحدود الجغرافية، إذ تسببت في زعزعة الاستقرار المالي لعدد من الدول النامية، من خلال خلق فجوات تمويلية في موازنات الدول، لا سيّما في القطاعات التي تعتمد على التمويل الخارجي لمواصلة تقديم خدمات أساسية في عدد من تلك البلدان.

ملامح الإنفاق الأمريكي الخارجي قبل تقليصه

وفقًا لطلب موازنة الرئيس الأمريكي للسنة المالية 2024 “2024 The President’s Budget Request for Fiscal Year “، بلغ حجم المساعدات الأمريكية الخارجية نحو 50 مليار دولار أمريكي، وغلب على تلك المساعدات توجه استراتيجي سابق نحو القطاعات المرتبطة بالصحة والطوارئ والأمن، إذ استحوذ القطاع الصحي على النسبة الأكبر من التمويل (23.3%)، تليه المساعدات الإنسانية بنسبة 21.3%، كما حظي قطاع السلام والأمن بنسبة 19.3%. في المقابل، نالت قطاعات التنمية الاقتصادية والبيئة والديمقراطية مجتمعة نحو 23%. أما قطاع التعليم والخدمات الاجتماعية، فقد حصل على أقل نسبة (2.5%)، وبلغت قيمة المساعدات الخارجية التي أشرفت عليها كلٌّ من وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مجتمعتين نحو 43.8 مليار دولار، أي ما يُعادل 87.6% من إجمالي المساعدات الخارجية الأمريكية، واستفادت منها 178 دولة حول العالم.

الأثر الاقتصادي العالمي لخفض المساعدات

تشير تقديرات مركز التنمية العالمية (Center for Global Development) إلى أن استمرار هذا التقليص لمدة عام كامل من شأنه أن يؤدي إلى تراجع يتجاوز 1% من الدخل القومي الإجمالي في نحو 23 دولة. وقد حدّد المركز ثماني دول من بين الـ 26 دولة الأشد فقرًا عالميًا التي تعتمد بدرجة كبيرة على تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID “United States Agency for International Development”، وتشمل: جنوب السودان، الصومال، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ليبيريا، أفغانستان، السودان، أوغندا، وإثيوبيا.

في هذه الدول، تمثل المساعدات الخارجية نحو 11% من الدخل القومي الإجمالي في المتوسط، بينما تسهم USAID وحدها بنحو 30% من تلك المساعدات، ما يعني أن تجميدها قد يُفضي إلى عجز يُعادل أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول. وهو ما يُمثّل صدمة اقتصادية محتملة ذات أثر بالغ في دول يبلغ مجموع سكانها نحو 410 ملايين نسمة.

تشير التقديرات إلى أن استمرار تجميد المساعدات لمدة عام قد يؤدي إلى تعرض بعض الاقتصادات لصدمة اقتصادية تبلغ 1% على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي، وتشمل هذه الدول 16 دولة منخفضة الدخل، و7 دول من الشريحة الدنيا للدول متوسطة الدخل.

المصدر

ثانيًا: قرارات الهجرة وتداعياتها الاقتصادية

في موازاة قرارات تقليص المساعدات الخارجية، تبنّت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مع عودته إلى السلطة في يناير 2025، حزمة من السياسات المتشددة في ملف الهجرة، تتسم بطابع حمائي صارم، وتتسم بحدة أكبر ووضوح أيديولوجي أعمق مما عرفته الولايات المتحدة خلال فترته الرئاسية الأولى، حيث استهدفت بالأساس تقليص تدفق المهاجرين إلى الأراضي الأمريكية، خاصة من الدول ذات الاقتصادات الهشة، ومع أن هذه السياسات تندرج تحت إطار السيادة الوطنية لكل دولة في تنظيم حدودها، إلا أن آثارها الاقتصادية تتشابك بشكل مباشر مع ديناميكيات الاقتصاد الدولي، بما في ذلك حركة العمالة الدولية، والتحويلات المالية للمهاجرين، وسلاسل الإنتاج العالمية، وصولًا إلى حركة العمالة منخفضة التكلفة التي تشكل ركيزة لبعض القطاعات الحيوية، مثل الزراعة، البناء، والخدمات اللوجستية.

كما تؤثر هذه السياسات في ميزان العرض والطلب داخل الاقتصاد الأمريكي نفسه، إذ يمكن لتقليص العمالة المهاجرة أن يخلق فجوات في سوق العمل، ويرفع من تكاليف الإنتاج في بعض الصناعات الحيوية، مما ينعكس على معدلات التضخم والتنافسية الدولية للمنتجات الأمريكية.

في المحصلة، تعكس سياسات الهجرة الجديدة اتجاهًا حمائيًا متصاعدًا يعيد رسم العلاقة بين الداخل والخارج، ليس فقط من منطلق أمني أو اجتماعي، بل باعتبارها أداة لإعادة هيكلة الأولويات الاقتصادية والديمغرافية للولايات المتحدة، وإن كان ذلك بثمن اقتصادي يدفعه الآخرون – وربما الداخل الأمريكي نفسه – على المدى الطويل.

وفيما يلي عرض لأبرز الإجراءات التي اعتمدتها إدارته في هذا الملف منذ مطلع عام 2025.

  • إنهاء حق المواطنة بالولادة.

  • إعلان حالة الطوارئ الوطنية على الحدود.

  • تعليق برنامج قبول اللاجئين الأمريكي (USRAP).

  • توسيع عمليات الترحيل وتعزيز صلاحيات وكالة الهجرة والجمارك ICE.

  • إعادة العمل بسياسة “ابقَ في المكسيك” أو Remain in Mexico، وهي برنامج أمريكي يُجبر طالبي اللجوء غير المكسيكيين القادمين من الحدود الجنوبية على الانتظار في المكسيك في أثناء معالجة قضاياهم في محاكم الهجرة الأمريكية.

  • تقييد لمّ شمل العائلات وتقليص التأشيرات العائلية.

  • تصنيف المهاجرين كتهديد محتمل للأمن السيبراني والاقتصاد الوطني، والأمن بشكل عام داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

الأثر الاقتصادي العالمي لقرارات الهجرة

تُظهر بيانات عام 2022 أن عدد العمال غير النظاميين في الولايات المتحدة قُدّر بنحو 8.3 ملايين شخص، أي ما يعادل قرابة 5% من إجمالي القوة العاملة. ورغم الجدل المحتدم حول قضية الهجرة، فإن التقديرات الاقتصادية تشير بوضوح إلى أن عمليات الترحيل الشاملة قد تترك أثرًا بالغًا في الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء.

يشير معهد بيترسون للاقتصاد الدولي (Peterson Institute for International Economics) إلى أن الناتج المحلي الأمريكي قد يتراجع بنسبة تتراوح بين 1.2% و7.4% بحلول عام 2028، ووفقًا لتلك التقديرات التي تنبأت بخصائص عمليات الهجرة خلال الفترة من 2025 – 2028 ، وذلك بسبب أن ترحيل العمال غير المصرح لهم يقلل فرص العمل للعمال داخل الولايات المتحدة، وبالتالي نقص اليد العاملة، ويفترض ترامب أن أصحاب العمل يستبدلون بالعمال المُرحلين عُمالًا محليين، ولكن التاريخ يثبت أن ذلك ليس سهلًا، وعادةً ما يلجأ أصحاب العمل إلى الاستثمار في التكنولوجيا الأقل اعتمادًا على اليد العاملة بدلًا من ذلك،  والنتيجة النهائية هي تراجع التوظيف في قطاعات رئيسة، مثل: الخدمات والزراعة والصناعة، “تستند التقديرات إلى سيناريوهين محتملين للمسار القانوني: أحدهما يفترض بيئة تنظيمية مرنة وأقل تشددًا، والآخر يتوقع إطارًا قانونيًا صارمًا يتسم بقيود مشددة، وفي كلا السيناريوهين، يُتوقع أن تؤدي السياسات المتشددة إلى انخفاض في الإنتاج والتوظيف، لا سيما في القطاعات الأكثر ارتباطًا بالتجارة الدولية، مثل التصنيع والزراعة.

يُشير السيناريو الأقل حدّة إلى ترحيل نحو 1.3 مليون مهاجر خلال الفترة الممتدة إلى عام 2028، وهو ما يؤدي إلى تراجع حجم القوى العاملة بنسبة 0.8% في الولايات المتحدة، ويترتب عليه خسائر مباشرة تتراوح بين 13، و35 مليار دولار. كما يُتوقع أن يتراجع الناتج المحلي بنسبة 1.2%، ويقل التوظيف بنسبة 1.1% نتيجة انخفاض الطلب، فيما يُقدّر ارتفاع معدل التضخم بنحو 0.6%. وتُعد قطاعات الصناعة والزراعة من بين الأكثر تأثرًا بهذه التغييرات البنيوية في سوق العمل.

بينما في السيناريو الأعلى تشددًا، يُفترض تنفيذ ترحيل جماعي يشمل ما بين 7 إلى 8.3 ملايين عامل غير موثق، وهو ما يعادل تقريبًا كامل عدد العمال غير النظاميين في الولايات المتحدة. وتُقدّر الكلفة المباشرة لهذا الإجراء بما يتراوح بين 84 و223 مليار دولار خلال الفترة (2024-2040)، دون احتساب الآثار غير المباشرة في الاقتصاد الكلي. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الترحيل إلى تراجع كبير في الإنتاجية، وتقليص القوة العاملة، وانخفاض مستويات الاستهلاك، ما يسفر عن تراجع التوظيف بنسبة تصل إلى 6.5%، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.4%، وهي نسبة تعكس دخول الاقتصاد في حالة ركود حاد. كما يُتوقع أن يقود النقص في العمالة إلى ارتفاع معدل التضخم بنسبة 3.5%، نتيجة زيادة تكاليف الإنتاج والضغوط على الأجور، لا سيما في القطاعات كثيفة العمالة، مثل: الصناعة والزراعة. ويجسد هذا السيناريو حالة من الانكماش الاقتصادي العميق خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويعكس مدى الترابط بين سياسات الهجرة المتشددة والاستقرار الاقتصادي الداخلي.

المصدر

في أوائل القرن العشرين، وقبل فرض ضريبة الدخل في الولايات المتحدة، كانت الرسوم الجمركية تُشكل المصدر الرئيس لتمويل نفقات الحكومة. ويسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ولايته الثانية، إلى إحياء هذا النهج التاريخي، من خلال ما أسماه “دائرة الإيرادات الخارجية”، وهي فكرة تقوم على تقليص ضريبة الدخل تدريجيًا والاعتماد بدلًا منها على الرسوم الجمركية، بحيث يتحمل الأجانب – نظريًا – جزءًا كبيرًا من عبء تمويل الحكومة الفيدرالية. وقد صرّح ترامب مؤخرًا عبر منصته للتواصل الاجتماعي بأن هذه الرسوم “ستكون بمثابة كنزٍ ضخم”، مدعيًا أنها قد تُلغي ضرائب الدخل بالكامل لمن يقل دخلهم السنوي عن 200 ألف دولار.

وفي هذا الإطار، أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن هذه السياسة ستُشجع المستهلك الأمريكي على شراء المنتجات المحلية، وتُعزز الإيرادات الحكومية، وتُحفز الاستثمار الداخلي. وخلال ولايته الأولى، فرض ترامب رسومًا جمركية كبيرة، وعاد في حملته الرئاسية الثانية ليَعِد بالمزيد، وهو ما تجسّد سريعًا بعد عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، حين أصدر أمرًا تنفيذيًا يوجّه وزراءه لإعداد حزمة جديدة من التعريفات.

وقد شهد شهر أبريل 2025 ذروة هذا التوجه، حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثاني من الشهر ذاته – الذي أطلق عليه “يوم التحرير” – عن برنامج شامل لتعريفات جمركية جديدة، قال إنه يهدف إلى “إعادة التوازن إلى التجارة الأمريكية”. مثّلت هذه الخطوة تصعيدًا كبيرًا في سياسة الحماية الاقتصادية، إذ بلغت معدلات الرسوم الجمركية مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى زلزال في الأسواق المالية العالمية، تراجع في مؤشرات الأسهم الأمريكية، هروب الاستثمارات من الأصول الأمريكية، إلى جانب ردود فعل غاضبة من الحلفاء وقلق داخل الكونغرس، حتى من داخل الحزب الجمهوري.

ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 9 أبريل تعليقًا مؤقتًا للتعريفات الجديدة لمدة 90 يومًا على معظم الدول، مع الإبقاء على تعريفات شاملة بنسبة 10%، وتعريفات مشددة بنسبة 25% على واردات الصلب ولألومنيوم. إلا أن هذا التجميد لم يشمل الصين، التي فُرضت عليها تعريفات جديدة وصلت إلى حد أدنى بلغ 145%، في إطار محاولة واضحة للضغط على بكين لإجراء تنازلات تجارية كبيرة.

من المتوقع أن يسجل متوسط التعريفة الجمركية المفروضة على الواردات في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلى مستوياته منذ عقود. وقد شملت هذه الرسوم الجديدة عددًا كبيرًا من الدول المصدّرة لسلع أساسية إلى الولايات المتحدة، مثل السيارات، والإلكترونيات، والمواد الغذائية، والمشروبات، والخشب، والوقود، مما أدى إلى ارتفاع واضح في أسعار السلع الأساسية للمستهلك الأمريكي. وعلى الرغم من محاولات إدارة ترامب التخفيف من هذه التداعيات، كما حدث في 29 أبريل من خلال تقديم تسهيلات خاصة لمصنّعي السيارات الأمريكيين، فإن العديد من المحللين يرون أن هذه الإجراءات قد تكون غير كافية لاحتواء الآثار السلبية المتوقعة.

تعكس هذه السياسات الجمركية رهانًا كبيرًا من ترامب على حجم السوق الأمريكية كأداة لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي. إلا أن أهداف هذا البرنامج لا تزال غامضة، إذ يبدو أن غاياته تتراوح بين محاولة إعادة التفاوض على صفقات اقتصادية تُصحح الاختلالات التجارية، والسعي لتوفير فرص عمل محلية، وتفكيك تحالفات قديمة يرى ترامب أنها قيدت الطموح الأمريكي، إلى جانب ممارسة ضغوط شديدة على الصين تمهيدًا لما قد يكون “صفقة كبرى” تشمل تنازلات أمنية مقابل مكاسب تجارية، وكل ذلك ضمن تصور يُعيد بناء نظام عالمي قائم على المعاملات المباشرة والمصالح.

المصدر

أولًا: التصعيد والتراجع في سياسة التعريفات الجمركية لعام 2025

فيما يلي استعراض تفصيلي لأبرز المحطات الزمنية التي شكّلت ملامح سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية خلال النصف الأول من عام 2025، مدعومًا بالتواريخ والتطورات المحورية. وقد اتسمت هذه السياسة بدرجة عالية من التقلب والتذبذب، حيث تنقّلت بين موجات من التصعيد المفاجئ والتراجع التكتيكي، وتراوحت مواقف الإدارة الأمريكية ما بين تهديدات معلنة واتفاقات مؤقتة. وقد أعاد هذا المشهد المضطرب إلى الأذهان أجواء الحرب التجارية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي، التي تسببت في اضطرابات اقتصادية عالمية عميقة.

أبرز المحطات الزمنية التي شكّلت ملامح سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية خلال النصف الأول من عام 2025


المصدر

ثانيًا: ردود الأفعال الدولية وتوجهات الدول تجاه سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

أثارت السياسات الجمركية التي اتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موجة من ردود الفعل المتباينة على الساحة الدولية. فقد تراوحت المواقف بين التصعيد المتبادل بفرض رسوم جمركية مضادة، والبحث عن تحالفات بديلة.

وكانت إدارة ترامب قد أعلنت عن خطة لتوقيع 90 صفقة تجارية خلال 90 يومًا، تبدأ من 9 أبريل 2025، وتنتهي في 8 يوليو 2025، في أعقاب تعليق الرسوم المتبادلة على عدد كبير من الدول. إلا أنه، وبعد مرور أكثر من ثلثي المدة، لم تُبرم سوى اتفاقيتين: واحدة مع بريطانيا، الحليف التقليدي، وأخرى مع الصين، رغم الحرب التجارية المحتدمة بين البلدين. وقد تضمنت كلتا الاتفاقيتين تخفيضات جمركية محدودة دون تقديم تنازلات جوهرية للولايات المتحدة.

في المقابل، أحرزت الدول الـ 88 المتبقية تقدمًا بطيئًا ومضطربًا في مفاوضاتها، حيث تتبدل الأولويات الأمريكية باستمرار وفقًا لأهواء البيت الأبيض. دول مثل اليابان والهند خسرت مواقعها المتقدمة في التفاوض نتيجة ملاحظات أو خلافات على التفاصيل، وصرّح رئيس الوزراء الياباني، إيشيبا شيجيرو، بأن إصرار الولايات المتحدة على إقصاء التعريفات القطاعية من المفاوضات أمرٌ غير عادل.

في حين صعدت دول أصغر، مثل: فيجي وسويسرا في سلم الأولوية بفضل علاقات سياسية طيبة، أو إشارات دبلوماسية إيجابية. أما الاتحاد الأوروبي، فظل في ذيل القائمة، واصفًا ترامب التكتل بأنه “أصعب من الصين”.

فيما يلي، سيتم عرض أبرز ردود أفعال الدول تجاه السياسات التجارية التي انتهجتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، والتي اتسمت بالحمائية والتقلب في المواقف. فقد تراوحت استجابات الدول ما بين المواجهة المباشرة والرد بإجراءات مماثلة، أو السعي لإبرام اتفاقات بديلة بعيدًا عن واشنطن، في حين اختارت دول أخرى اتباع مسار دبلوماسي حذر لتفادي التصعيد. وقد أسهمت هذه السياسات في إعادة تشكيل خريطة التحالفات التجارية الدولية، وأثارت مخاوف واسعة النطاق بشأن مستقبل النظام التجاري متعدد الأطراف.

المصدر

الصين:

جاء أبرز ردود الفعل من جانب الصين التي شنت هي الأخرى حربًا تجارية ردًا على النهج الأمريكي ضدها، وواجهت الصين هذا النهج بإجراءات جمركية مضادة لحماية مصالحها من الضرر، كما أنها قدمت شكوى إلى منظمة التجارة العالمية، متهمة السياسات الأمريكية بأنها تنتهك القواعد المنظمة لنظام التجارة الدولي.

استمر التصعيد المتبادل إلى حين توصل الطرفان في منتصف مايو 2025 إلى ما يمكن توصيفه بهدنة لخفض وتيرة المواجهات الجمركية، وهو ما تم التوصل إليه بعد جولات من المحادثات اتفق خلالها الطرفان على تعليق بعض الرسوم الجمركية لمدة 90 يومًا، وإنشاء آلية لمواصلة المناقشات حول العلاقات الاقتصادية والتجارية. بيد أن تلك الهدنة قد انتُهكت بنهاية مايو، وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن المسؤولية عن ذلك، مما أدى إلى تجدد الحرب التجارية مرة أخرى، حيث أعلن الرئيس ترامب في 4 يونيو الجاري، عن مضاعفة الرسوم الجمركية العالمية على الصلب والألومنيوم من 25% إلى 50%.

المصدر

الاتحاد الأوروبي:

أثار التوجه الحمائي الذي انتهجته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقادات حادة في الأوساط الأوروبية، إذ رأى قادة الاتحاد الأوروبي أن الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن على واردات الصلب والألومنيوم والسيارات تمثل خطوة “غير مبررة” وتتنافى مع مبادئ الشراكة العابرة للأطلسي. واعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن هذه الإجراءات تشكل “خذلانًا من جانب الحليف الأقدم لأوروبا“.

استعدادًا لمواجهة ما يُنذر بأن يتحوّل إلى حرب تجارية مفتوحة، أعلن الاتحاد الأوروبي عزمه على فرض تدابير مضادة تطال واردات أمريكية تصل قيمتها إلى 95 مليار يورو (نحو 107.2 مليارات دولار أمريكي)، في حال فشلت المفاوضات الجارية في إزالة الرسوم الأمريكية. وتشمل هذه الاستعدادات التشاور بين دول الاتحاد لتحديد قائمة السلع الأمريكية المستهدفة.

وبحسب الخطط الموضوعة، يواجه الاتحاد الأوروبي رسومًا أمريكية بنسبة 25% على واردات الصلب والألومنيوم والسيارات، إضافة إلى رسوم متبادلة بنسبة 10% على باقي السلع، مرشحة للارتفاع إلى 20% بعد انقضاء مهلة الـ90 يومًا التي حددها ترامب، وتنتهي في 8 يوليو 2025. وفي هذا الإطار، تستعد المفوضية الأوروبية لإطلاق رد فوري إذا لم تُسفر المفاوضات عن نتائج ملموسة.

في وقت سابق، وتحديدًا في أبريل، وافق الاتحاد الأوروبي على فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات أمريكية بقيمة 21 مليار يورو، تشمل سلعًا، مثل: الذرة، القمح، الدراجات النارية، والملابس. إلا أن هذه الرسوم تم تعليقها بعد إعلان ترامب تعليق بعض الرسوم لمدة 90 يومًا، في بادرة تهدئة مؤقتة.

لكن مع نهاية مايو، تفاقمت التوترات مجددًا إثر قرار الولايات المتحدة مضاعفة رسوم استيراد الصلب من 25% إلى 50%، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى التعبير عن “أسفها الشديد”، معتبرة أن القرار الأمريكي يزيد حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، ويُلحق أضرارًا بالمستهلكين والشركات في جانبي الأطلسي، ما يستوجب اتخاذ تدابير مضادة فورًا.

يدرك الاتحاد الأوروبي أن الرد التقليدي عبر الرسوم لن يكون كافيًا. لذلك، يُعيد التفكير في استراتيجيات تناسب طبيعة الاقتصاد في القرن الحادي والعشرين. ومن أبرز مجالات الضغط المقترحة: الخدمات الرقمية الأمريكية، والتي تمثل نقطة ضعف استراتيجية؛ نظرًا لاعتماد أوروبا على منصات وشركات تكنولوجيا أمريكية كبرى.

ورغم أن “التجارة الرقمية” معفاة من التعريفات الجمركية بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، فإن الاتحاد الأوروبي يفكر في ثلاث مسارات للضغط:

1- القيود التقنية:

قامت بعض الدول الأوروبية بمراجعة علاقتها مع مزودي الحوسبة السحابية الأمريكيين. وتزامنًا مع إعداد قواعد جديدة لتنظيم الحوسبة السحابية، يُحتمل أن تُفرض متطلبات صارمة على الشركات الأمريكية، مثل: “مايكروسوفت”، التي بادرت بتقديم “خمس التزامات رقمية” تشمل حماية الخصوصية ودعم البنية التحتية الأوروبية.

ويُعد “تخزين البيانات” من أبرز أدوات الضغط، حيث يعتمد الاتفاق الحالي على التزام واشنطن بمعايير حماية بيانات صارمة. لكن قرارات إدارة ترامب الأخيرة، مثل استبعاد أعضاء ديمقراطيين من مجلس رقابة الخصوصية، قد تمنح الاتحاد الأوروبي مبررًا قانونيًا لإعادة تقييم هذا الاتفاق، وربما تعليقه، إذ يرتبط الطرفان  (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي) باتفاقية “إطار خصوصية البيانات عبر الأطلسي” التي دخلت حيز التنفيذ في يوليو 2023، لضمان مستوى حماية مكافئ لما تنص عليه اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR)، غير أن بعض القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مثل استبعاد أعضاء ديمقراطيين من مجلس رقابة الخصوصية والحريات المدنية (PCLOB)، أثارت مخاوف أوروبية بشأن تراجع استقلالية الرقابة الأمريكية على استخدام البيانات، وهو ما قد يُشكل مبررًا قانونيًا لإعادة تقييم الاتفاق أو حتى تعليقه،  وتستند هذه المخاوف إلى سوابق قضائية سابقة، حيث سبق لمحكمة العدل الأوروبية أن أبطلت اتفاقيتي “Safe Harbor” و”Privacy Shield” للسبب ذاته، وفي حال علّق الاتحاد الأوروبي الاتفاق، فإن كبرى الشركات الأمريكية، مثل: Google وMeta وAmazon ستُجبر على تخزين بيانات المستخدمين الأوروبيين داخل الاتحاد أو مواجهة غرامات قاسية، مما يمنح بروكسل ورقة تفاوضية قوية في سياق التوترات التجارية العابرة للأطلسي.

2- فرض الضرائب على الخدمات الرقمية

يدرس الاتحاد الأوروبي فرض ضرائب تستهدف عائدات الإعلانات الرقمية الكبرى، والتي غالبًا ما تُجنَّب الضرائب باستخدام هياكل محاسبية معقدة. ومع أن هذه الضرائب قد تُحمّل تكاليفها على المستهلك النهائي، فإنها تُعد وسيلة لمواجهة التهرب الضريبي العابر للحدود. فوفقا لدراسة أكاديمية حديثة انعكست الرسوم المفروضة على “أمازون” على البائعين الصغار الذين بدورهم نقلوا عبء التكاليف إلى المستهلكين عبر زيادة الأسعار.

3- التصعيد القانوني

يمثل “الإزعاج القانوني” خيارًا ثالثًا مطروحًا. ففي 23 أبريل 2025، فرضت المفوضية الأوروبية غرامات كبيرة على شركتي “ميتا” و”آبل”؛ بسبب انتهاكهما لقانون الأسواق الرقمية الأوروبي، ومن المتوقع صدور قرارات مماثلة ضد شركة “ألفابت” قريبًا. ويُنتظر أن تتسع صلاحيات المفوضية بموجب قانون الخدمات الرقمية الجديد، الذي يستهدف المحتوى الضار والمعلومات المضللة، وقد استُخدم مؤخرًا ضد منصة “إكس” التابعة لإيلون ماسك.

ورغم أن صناع القرار الأوروبيين يترددون في تسييس هذه القوانين، فإنها تُمثل أدوات قانونية مرنة للضغط عند الحاجة.

في ضوء هذه المعطيات، يُدرك الاتحاد الأوروبي أن أيًّا من الخيارات الثلاثة ليس سهلًا، أو خاليًا من التكلفة. ومع ذلك، تستحضر بروكسل النموذج الصيني، حيث تمكنت بكين من دفع ترامب إلى التراجع عبر التهديد بإجراءات موجعة. لذلك، يبحث المسؤولون الأوروبيون عن أوراق ضغط فاعلة، على أمل أن يكون التهديد وحده كافيًا لتفادي التصعيد.

المملكة المتحدة:

توصلت المملكة المتحدة والولايات المتحدة، في مايو الماضي، إلى اتفاق محدود بشأن الرسوم الجمركية على بعض السلع المتبادلة بين البلدين، إلا أن هذا الاتفاق لم يُنفذ بشكل كامل حتى الآن. وتُعد الولايات المتحدة أحد أبرز الشركاء التجاريين لبريطانيا، إذ بلغت قيمة الصادرات البريطانية إليها نحو 58 مليار جنيه إسترليني في عام 2024، تركزت بشكل أساسي في قطاعات السيارات، والآلات، والأدوية.

ورغم استمرار تطبيق الرسوم الجمركية العامة بنسبة 10% على معظم السلع البريطانية المستوردة إلى الولايات المتحدة، فإن الاتفاق المبرم يتضمن إعفاءات محددة. فقد تم تقليص ضريبة الاستيراد على السيارات البريطانية من 25% إلى 10%، على ألا يتجاوز عدد السيارات المصدّرة 100 ألف وحدة سنويًا، وهو ما يعادل تقريبًا حجم صادرات المملكة المتحدة في هذا القطاع لعام 2024. كما نصت الاتفاقية على إلغاء الرسوم الجمركية المفروضة على واردات الصلب والألومنيوم البريطانية بشكل كامل، مع وضع حصة تصديرية سيتم تحديد سقفها لاحقًا.

وفي المقابل، قامت المملكة المتحدة بإلغاء رسوم جمركية بنسبة 20% كانت مفروضة على لحوم البقر الأمريكية، ورفعت الحصة المسموح بها من 1000 إلى 13 ألف طن متري. وأكد وزير الأعمال البريطاني، جوناثان رينولدز، في هذا السياق، أن المعايير الغذائية الصارمة المعمول بها في المملكة المتحدة، خاصة تلك المتعلقة بلحوم البقر، ستظل دون تغيير. وقد تم الاتفاق على هذه الترتيبات عقب لقاء الوزير البريطاني مع الممثل التجاري الأمريكي، جيميسون جرير، في باريس، ما مثّل دفعة دبلوماسية لإعفاء المملكة المتحدة مؤقتًا من الرسوم الجمركية المرتفعة على الصلب والألمنيوم.

المصدر

كندا:

أثار إعلان ترامب عن مضاعفة الرسوم على الصلب والألومنيوم غضب كندا وتخوفها من الخسائر الكارثية التي قد تلحق باقتصادها؛ نظرًا لأن كندا الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة؛ فهي تمثل ربع الواردات الأمريكية من الصلب والألومنيوم في 2023. وقد مثل هذا القرار انتكاسًا عن مسار التفاهم الذي سعى رئيس الوزراء الكندي مارك كارني لتحقيقه من خلال زيارته للبيت الأبيض مطلع مايو الماضي. ومن ثم، أعلنت كندا عن رد “بدولار مقابل دولار” على الرسوم الأمريكية، حيث ستؤثر في منتجات الصلب بقيمة 12.6 مليار دولار كندي، ومنتجات الألومنيوم بقيمة 3 مليارات دولار كندي، والبضائع الأمريكية الإضافية بقيمة 14.2 مليار دولار كندي.

ردّت كندا على الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة بتبني مجموعة من الإجراءات المضادة تهدف إلى حماية العمال والشركات الكندية، ودعم الاقتصاد الوطني، وخاصة قطاع السيارات. فقد فرضت الحكومة الكندية رسومًا جمركية بنسبة 25% على المركبات المجمعة بالكامل المستوردة من الولايات المتحدة إذا لم تكن متوافقة مع شروط اتفاقية التجارة بين كندا والولايات المتحدة (CUSMA). كما شملت هذه الرسوم المكونات غير الكندية وغير المكسيكية المستخدمة في المركبات المتوافقة مع الاتفاقية نفسها. وبالإضافة إلى هذه التدابير، أعلنت كندا عن خطط لتطوير إطار عمل جديد يشجع منتجي السيارات على زيادة الإنتاج والاستثمار داخل البلاد، مع توجيه حصيلة الرسوم الجمركية لدعم صناعة السيارات المحلية وتعزيز تنافسيتها.

المصدر

المكسيك:

أبدت رئيسة المكسيك، كلوديا شينباوم، استعداد بلادها للرد على الرسوم الجمركية التي أعلنتها الولايات المتحدة في فبراير، ملوّحة بفرض إجراءات مماثلة. ومع ذلك، فضّلت التريث حتى إجراء محادثات مباشرة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد أثمر هذا النهج الحازم عن نتائج إيجابية، حيث نجحت المباحثات بين الجانبين في دفع الإدارة الأمريكية إلى تأجيل تنفيذ الرسوم المعلنة ضد المكسيك وكندا لمدة شهر، وذلك مقابل التزام مكسيكي بتعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود للحد من تهريب المخدرات والأسلحة. وقد عبّر ترامب عن تقديره للرئيسة المكسيكية، واصفًا إياها بـ”الزعيمة الصارمة” نظرًا لنجاحها في التفاوض بشأن القضايا الجمركية والأمنية العالقة، بل وقرر استثناء المكسيك من موجة الرسوم الجمركية العالمية التي أعلنتها الولايات المتحدة في “يوم التحرير“.

وقد استُهدفت كندا والمكسيك بالإضافة إلى الصين بالرسوم الجمركية الأمريكية التي أعُلن عنها أولًا في فبراير 2025 ، مما أدى إلى فرض رسوم جمركية منهم ردًا على ذلك، ففرضت كندا رسومًا جمركية بنسبة 25% على الواردات الأمريكية، بما في ذلك المشروبات ومستحضرات التجميل والمنتجات الورقية بقيمة 30 مليار دولار كندي (20 مليار دولار أمريكي)، مع التخطيط لإصدار قائمة ثانية من السلع تشمل سيارات الركاب والشاحنات ومنتجات الصلب والألومنيوم وبعض الفواكه والخضراوات ولحوم البقر ولحم الخنزير ومنتجات الألبان ومنتجات الطيران والفضاء، وغيرها، والتي تُقدر قيمتها بـ 125 مليار دولار كندي (85 مليار دولار أمريكي).

المصدر

شهد الاقتصاد العالمي، بعد سلسلة طويلة وغير مسبوقة من الصدمات، فترة من الاستقرار النسبي، وإن كانت معدلات النمو المسجلة لا تزال دون المستوى المأمول. إلا أن هذا المشهد بدأ يتحول بشكل ملحوظ مع بدء الحكومات في مختلف أنحاء العالم إعادة ترتيب أولوياتها السياسية، في ظل تصاعد غير مسبوق في حالة عدم اليقين. وقد تجلى هذا التحول في قيام كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتخفيض توقعاتهما للنمو العالمي بشكل واضح ومستمر.

يأتي هذا التغير في المشهد الاقتصادي العالمي في وقت تتزايد فيه التداعيات السلبية للسياسات الحمائية، وفي مقدمتها السياسات التجارية التي تبنتها الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب. فمنذ بداية ولايته، اتبع ترامب سياسة تجارية صارمة اتسمت بفرض رسوم جمركية متقلبة لم تقتصر على الصين فحسب، بل شملت أيضًا حلفاء رئيسين، مثل: كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي. هذا النهج المتقلب قد أربك الأسواق بشكل كبير، وأعاق التدفق الحر للسلع والخدمات عالميًا، مما دفع العديد من الشركات إلى تسريع شحناتها إلى الولايات المتحدة لتجنب الرسوم المرتفعة، خاصة تلك التي كان من المقرر البدء في تطبيقها في يوليو 2025.

وقد أسهمت هذه السياسات الحمائية في تعميق حالة عدم اليقين على مستوى السياسات التجارية، وأثرت بشكل مباشر في حركة التجارة والاستثمار العالميين. دفع هذا الوضع المؤسسات المالية الدولية، بما في ذلك وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، إلى مراجعة توقعاتها الاقتصادية بشكل متكرر نحو التدهور. فقد خفضت فيتش نظرتها إلى السندات الحكومية العالمية إلى “سلبية”، مؤكدة أن تصاعد الحرب التجارية العالمية وعدم وضوح آفاق التعريفات الجمركية يمثلان “صدمة سلبية كبيرة” للاقتصاد العالمي، تؤثر في حجم التجارة الدولية وسلاسل التوريد والاستثمار والعلاقات الاقتصادية بين الدول.

وتؤكد تقارير المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن الحرب التجارية ستؤدي إلى إبطاء النمو في الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، خلال العام الحالي والسنوات المقبلة، ما لم تُحل الخلافات التجارية.

أولًا: الاقتصاد العالمي

1- تباطؤ النمو العالمي في ظل تصاعد التوترات التجارية

في ظل بيئة دولية مضطربة، كشفت تقارير صادرة عن أبرز المؤسسات الدولية عن مؤشرات واضحة على تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، نتيجة تصاعد التوترات التجارية وانتهاج الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، لسياسات حمائية متزايدة. فقد خفّض كل من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، توقعاتهم للنمو خلال عامي 2025 و2026، محذّرين من تداعيات مباشرة وغير مباشرة لهذه السياسات على حركة التجارة، والاستثمار، وسوق العمل، وسلاسل التوريد العالمية.

وتُخيّم على المشهد الاقتصادي العالمي مخاطر نزولية متزايدة، نتيجة احتدام النزاعات التجارية والتقلبات في الأسواق المالية. فحدوث تحولات مفاجئة في السياسات الاقتصادية أو تراجع ثقة المستثمرين قد يؤديان إلى تشديد الأوضاع المالية العالمية بشكل أكبر. كما أن استمرار التصعيد في الحروب التجارية، وتفاقم حالة عدم اليقين بشأن المسار المستقبلي للسياسات التجارية، يُنذر بتقويض آفاق النمو على المدى القريب والبعيد. وفي حال استمرار تراجع مستويات التعاون الدولي، فإن ذلك قد يُعرقل الجهود الرامية لبناء اقتصاد عالمي أكثر مرونة واستدامة.

أشار تقرير “الآفاق الاقتصادية العالمية” الصادر عن البنك الدولي في 10 يونيو 2025 إلى تدهور ملحوظ في توقعات النمو العالمي، حيث تم خفض تقديرات النمو للعام 2025 إلى 2.3%، أي أقل بنحو نصف نقطة مئوية مقارنة بتوقعات يناير من العام نفسه. كما رجّح التقرير ارتفاعًا طفيفًا في النمو إلى 2.4% في عام 2026، مقابل تقديرات سابقة بلغت 2.7%. ويمثل هذا الأداء أدنى معدل نمو عالمي منذ 17 عامًا، باستثناء فترات الركود.

وفي حال تحقق هذه التوقعات، فإن متوسط معدل النمو العالمي للفترة الممتدة من 2020 إلى 2026 سيكون الأبطأ منذ ستينيات القرن الماضي، ما يعكس حجم التحديات الهيكلية والاضطرابات الجيوسياسية التي تُقيد حركة الاقتصاد العالمي.

ويأتي هذا التباطؤ في ظل تصاعد حدة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي وصفها البنك الدولي بأنها تهديد مباشر للاقتصاد العالمي، مُقدّرًا أن تُلحق هذه الحرب خسائر قد تصل إلى 1.5 تريليون دولار خلال عام 2025 وحده.

فوفقًا للتقرير، من المتوقع أن تؤدي التوترات التجارية المتصاعدة وحالة عدم اليقين على مستوى السياسات إلى تراجع النمو الاقتصادي العالمي هذا العام إلى أبطأ وتيرة له منذ عام 2008، باستثناء فترات الركود العالمية الواضحة. وقد أدت هذه الاضطرابات إلى خفض توقعات النمو لنحو 70% من إجمالي الاقتصادات حول العالم، على اختلاف المناطق وفئات الدخل.

كما أوضح البنك، أنه من المتوقع أن يتباطأ معدل النمو في قرابة 60% من إجمالي الاقتصادات النامية في هذا العام، ليصل متوسطه إلى 3.8% في عام 2025، قبل أن يشهد تحسنًا طفيفًا ليبلغ 3.9% خلال عامي 2026، و2027. ويُعد هذا المستوى أدنى بأكثر من نقطة مئوية من متوسط النمو في العقد الثاني من الألفية الحالية. ومن المتوقع أن تحقق الدول منخفضة الدخل نموًا بنسبة 5.3% هذا العام، وهو ما يمثل تراجعًا قدره 0.4 نقاط مئوية مقارنة بالتوقعات الصادرة في بداية عام 2025.

ومع ذلك، قد ينتعش النمو العالمي بوتيرة أسرع من المتوقع حال تمكنت الاقتصادات الكبرى من تهدئة التوترات التجارية، مما سيحد من حالة عدم اليقين على مستوى السياسات بوجه عام والتقلبات المالية الحادة. وخلص التحليل إلى أنه في حال تسوية النزاعات التجارية الراهنة بخفض الرسوم الجمركية إلى النصف مقارنة بمستوياتها المسجلة أواخر مايو، سيعزز ذلك النمو العالمي بنحو 0.2 نقطة مئوية في المتوسط خلال عامي 2025، و2026.

أكد تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر عن صندوق النقد الدولي في أبريل 2025 الاتجاهات التباطؤية التي يشهدها الاقتصاد العالمي، حيث خفّض توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 2.8% لعام 2025، مقارنة بـ3.3% في تقديرات يناير من العام نفسه، مع توقعات بارتفاع طفيف إلى 3.0% في عام 2026. ويُعزى هذا التراجع إلى تصاعد السياسات الحمائية وبلوغ الرسوم الجمركية مستويات تاريخية غير مسبوقة منذ أكثر من قرن، بالإضافة إلى تفاقم حالة عدم اليقين بشأن مستقبل السياسات التجارية العالمية.

وقدم الصندوق توقعات عالمية باستثناء التعريفات الجمركية التي تم فرضها في شهر أبريل، ففي ظل هذا المسار البديل، كان النمو العالمي سيشهد تخفيضًا تراكميًا متواضعًا قدره 0.2 نقطة مئوية فقط، ليصل إلى 3.2% لعامي 2025 و2026.

ووفقًا للتقرير ذاته، شهدت توقعات النمو تراجعًا في كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية. ففي الاقتصادات المتقدمة، خُفّضت التقديرات لعام 2025 من 1.9% إلى 1.4%، كما تراجعت توقعات عام 2026 من 1.8% إلى 1.5%. ويُعزى هذا التراجع جزئيًا إلى تباطؤ متوقع في أداء الاقتصاد الأمريكي، إلى جانب ضعف النمو في بعض الدول الأوروبية، مثل المملكة المتحدة، التي من المتوقع أن تسجل نموًا بنسبة 1.1% خلال العام الجاري مقارنة بنحو 1.6% في تقديرات يناير، ورغم تواضع هذه النسبة، فإنها تبقى أعلى من توقعات النمو لكل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

من جهة أخرى، شهدت المكسيك أكبر خفض في التوقعات، حيث يُتوقع الآن انكماش اقتصادها بنسبة 0.3% خلال عام 2025، مقارنةً بتقديرات سابقة في يناير أشارت إلى نمو بنسبة 1.4%.

في المقابل، توقع صندوق النقد أن تسجل المملكة المتحدة أعلى معدل تضخم بين الاقتصادات المتقدمة، بنسبة تصل إلى 3.1%، مدفوعًا بشكل رئيس بارتفاع تكاليف المعيشة، لا سيما فواتير الطاقة والمياه.

أما في الاقتصادات النامية، فقد انخفضت التوقعات لعام 2025 من 4.2% إلى 3.7%، ولعام 2026 من 4.3% إلى 3.9%. وتعكس هذه التقديرات تأثير السياسات التجارية، إضافة إلى ضعف الطلب العالمي، واضطرابات سلاسل الإمداد، وتراجع ثقة المستثمرين.

وتأتي هذه التحديثات في ظل انعقاد الاجتماعات الربيعية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، حيث بحث كبار صانعي السياسات الاقتصادية التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي. وأوضح كبير الاقتصاديين في صندوق النقد، بيير أوليفييه غورينشا، أن الاقتصاد العالمي لا يزال يعاني آثار “ندوب عميقة” خلّفتها الصدمات الشديدة خلال السنوات الأربع الماضية، مشيرًا إلى أن العالم يواجه مرة أخرى اختبارًا اقتصاديًا قاسيًا. وأكد غورينشا أن حالة عدم اليقين المتزايدة بشأن السياسات التجارية تُعد من العوامل الرئيسة وراء خفض توقعات النمو، موضحًا أن “رد الفعل الأولي للعديد من الشركات سيكون التوقف عن التوسع، وتقليص الاستثمارات، وتقليص المشتريات”. وأضاف أن وقف تصعيد الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين لم ينعكس بشكل ملموس على التوقعات الاقتصادية العالمية، إذ لا تزال المعدلات الجمركية الفعلية بين الطرفين مرتفعة، فيما يستمر الغموض بشأن المسار المستقبلي للسياسات التجارية.

المصدر

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.