بابكر عيسى أحمد يكتب : الصقر العجوز المملؤ بالحكمة

101

الصقر العجوز المملؤ بالحكمة

الأحد ، 06 اكتوبر 2024
بقلم/ بابكر عيسى أحمد

الحزن يسكن الجميع … الوطن يواصل النزيف … الدماء تغطي وجه الحياة … العنوان هو الصمود في مواجهة القتلة والمتطلعين للسلطة بأي ثمن مهما كانت عذابات الناس وتشردهم في الأصقاع والبوادي وعبر الحدود … الأسئلة الوجودية شاخصة في الأفق وفي وجدان الناس … ما يحدث ليس فقط مواجهة بين جنرالين وإنما هي مخطط يستهدف الوطن في وجوده واستقراره وبقائه.
الراحل شاعر الأمة محمد المكي ابراهيم كان يرى ما يحدث قبل سنوات بعيدة من رحيله الفاجع وقد أشار إلى ذلك صراحة في وقت مبكر وبالتحديد قبل 14 عاماً من وقوع الفاجعة.
قال في المقدمة التي خطها في ديباجة ديوان الشاعر عبدالإله الزمراوي “طبل الهوى” الصادر بالدوحة في يناير عام 2010 “أن هذه اللحظة العصيبة من تاريخ السودان تنذر الوطنيين بأن الوطن سيتفتت كالنجوم العتيقة ويخر ساقطاً عبر السماء كالشهاب فلا تبقى منه سوى إشارات كونية تقول للمراصد الفلكية أن بلداً بذلك الأسم كان يشغل ذلك الحيز في خريطة الكرة الأرضية”.
هل كان الراحل المقيم محمد المكي ابراهيم -طيب الله ثراه- يرى أبعد مما كنا نرى ونحن نرصد كرة الثلج وهي تتدحرج من أعلى إلى أسفل ويضيف “لقد احببناه بكل قلوبنا وتغنى به شعراؤنا وفنانونا وأحتل مكانة سامقة في قلوبنا بفضل المبدعين السودانين … وذلك على عهدين: عهد العيش فيه وعهد البعد عنه … أول العهدين هو الزمن الممتد من الطفولة إلى سنوات النضج الفكري والعاطفي فقد نعمت الأجيال التي نشأت فيه بكل ما تقدم الأوطان لبنيها خاصة تلك الحياة القائمة على الحرية والمحبة واحترام الذات الإنسانية”.
يسترسل ود المكي في رؤيتة الإستشرافية “ثم جاء هذا الزمان الضيق الكئيب فطرد ألوفاً مؤلفة من السودانيين من مواقعهم في الخدمة العامة وقذف بهم في أرض الله الواسعة خارج الحدود وفي المنافي النائية”.
في آخر قصائده التي خطها في مسقط بسلطنة عمان بتاريخ 27 يوليو عام 2024 ينعي الشاعر ود المكي نفسه ويرثي وطنه في قصيدة بعنوان “حيث السعادة أعمق لوناً وأجمل”.
“قال عصفور قلبي: سنرحل الآن عن هذه الدوحة المقفرة … سوف نترك أشلاء من قتلوا … وسلاسل من وقعوا في الإسار … سوف نترك فوج الصبايا واعشاشنا في ضواحي النهار … سوف نترك للبربر المنتصر ما تبقى على ساحة المجزرة … إنني آخر الذاهبين … أنشر الآن أجنحتي ذاهباً عن بلادي … وأشياء قلبي … وأبناء سربي … وقافيتي المزهرة”.
“إنني ذاهب فأهنأوا أيها الظافرون … في الفراغ تجلجل حكمتكم وتروج حوانيتكم … أنتم العارفون … انتموا -ليس غيركم- المؤمنون … فأنظروا ما فعلتم بنا … وبأنفسكم والإله الرحيم”.
“إن صقراً عجوزاً مليئاً بحكمته وغبارات أيامه في نهايات أيامه يتغرب عن حبه الأبدي ويخرج من غابة الطلح حيث تنوح القماري … ومن ربع عزة … حيث السعادة أعمق لوناً وأجمل”.
محمد المكي ابراهيم -عليه الرحمه- كان يرى ما وراء الحجب ويعرف ما سيؤول إليه حال الوطن المكلوم الذي أحبه وعشقه وسكب بين يديه رحيق عينيه وعصارة قلبه وأجمل أيامه وقصائده الملتهبة بحب الناس والبلاد.
يقول عنه الصديق جعفر عباس “ابو الجعافر” أنه كان أحد اهرامات الشعر الثلاثة في جامعة الخرطوم مع محمد عبدالحي وعلي عبدالقيوم، وجاءت ثورة اكتوبر لتطيح بأول حكومة عسكرية وكان ود المكي حاديها ومنشدها … فالحقول التي أراد لها أن تشتعل قمحاً ووعداً وتمني غشتها غائلة الحرب واحترقت بمن فيها من زرع وبشر.
يضيف ابو الجعافر “أن ود المكي قد سبق هاشم صديق ومحجوب شريف ومحمد الحسن سالم حميد ومحمد طه القدال وأزهري محمد علي وغيرهم في تكريس موهبته الشعرية الضخمة للغناء للشعب وللأمل ولم يكن عجباً أن يحمل ديوانه الأول أسم “أمتي” وأن يكون كله غنائيات الوطن وظل ود المكي في خندق الشعب منافحاً عنه ومتخيراً وعر الدروب فاستقال في منصبه كسفير بوزارة الخارجية في تسعينات القرن الماضي”.
محمد المكي ابراهيم واصل عطائه في دواوينه التي تقطر إبداعاً وشهداً وروعته وجمال وهي على التوالي “أمتي 1969” … و “بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت عام 1972” … و “في غباء العامرية العام 1986” … و “يختبئ البستان في الوردة عام 1988” … وكانت له في كل ألوان الأدب السهم الأوفر.
المركز الثقافي السوداني بالدوحه أقام مساء الخميس 3 اكتوبر ندوة لتأبين المبدع الراحل الذي فجعنا برحيله شارك فيها مبدعون عرب وسودانيين وكانت أنيقة ومحضورة.
رحم الله شاعر الأمة محمد المكي ابراهيم رحمه واسعة واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ونعزي أنفسنا وكل أبناء الشعب السوداني … له الرحمة والمغفرة … والوطن ولود بمبدعيه الجدد من الشباب والذين لن ينضب مدادهم.

Leave A Reply

Your email address will not be published.