اقتصاد المهارات: نحو إعادة تشكيل سوق العمل العالمي

123

اقتصاد المهارات: نحو إعادة تشكيل سوق العمل العالمي

يشهد العالم تحولات متسارعة في سوق العمل بفعل الثورة الرقمية وتطور الذكاء الاصطناعي؛ ما جعل المهارات العنصر الحاسم في تحقيق التوظيف والنمو. ولم تعد المؤهلات الأكاديمية وحدها كافية، بل أصبح التركيز على اكتساب المهارات العملية والتعلم المستمر ضرورة لمواكبة التغيرات وضمان القدرة التنافسية. ومن هنا، يبرز اقتصاد المهارات كركيزة أساسية لمستقبل التنمية والعمل في العصر الحديث.

أولًا: التحولات العالمية في سوق العمل نحو اقتصاد المهارات

يشير اقتصاد المهارات (Skills Economy) إلى سوق عمل تُحدَّد فيه قابلية التوظيف والتنقل والنمو بناءً على المهارات، وليس على المسميات الوظيفية أو المؤهلات الأكاديمية. في هذا النموذج، تُعد القدرات ديناميكية ومتغيرة باستمرار، ويعتمد النجاح على سرعة تكيف الأفراد والمؤسسات مع التغيرات.

ووفقًا لتقارير المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)، يُعد اقتصاد المهارات تحولًا جوهريًّا في الطريقة التي تُقيَّم بها القيمة المهنية على مستوى الأفراد والمؤسسات. إذ أصبح التركيز ينصب على ما يمتلكه الأفراد من مهارات وقدرات، وما يمكنهم اكتسابه من مهارات جديدة، بدلًا من الاعتماد على المؤهلات الأكاديمية والمسميات الوظيفية التقليدية. في هذا السياق، أصبحت المهارات — التقنية منها والناعمة — تمثل العملة الجديدة للنمو والتوظيف في عالم العمل الحديث.

نشأ مفهوم اقتصاد المهارات جزئيًّا استجابةً لما يُعرف بـ “أزمة المهارات العالمية”، حيث تشير بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن نحو 87% من الشركات حول العالم تواجه حاليًّا فجوات مهارية أو تتوقع مواجهتها خلال السنوات الخمس المقبلة. ويُظهر ذلك أن المهارات المطلوبة في سوق العمل تتغير بوتيرة غير مسبوقة، مُدفوعة بالتطور التكنولوجي والتحول الرقمي والاقتصاد الأخضر. وقد أدرك الأفراد بدورهم أهمية تطوير المهارات القابلة للتطبيق والمتعددة الاستخدامات للحفاظ على قدرتهم التنافسية وضمان استمراريتهم المهنية في سوق عمل تتّسم بالتقلب والمرونة المتزايدة.

كما توقّع المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره لعام 2020 أن نصف العاملين حول العالم (50%) سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهني (Reskilling) بحلول عام 2025. ويشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2025، إلى أن نصف القوى العاملة العالمية تقريبًا قد شاركت بالفعل في برامج لإعادة التأهيل أو تطوير المهارات (Upskilling)؛ مما يدل على أن اقتصاد المهارات لم يعد تصورًا مستقبليًّا، بل واقعًا فعليًّا يتشكّل في الحاضر.

وفي ظل هذا الواقع الجديد، تتجه المؤسسات الأكثر نجاحًا إلى تبنّي نموذج يقوم على الكفاءة الفعلية للأفراد — أي ما يستطيعون القيام به فعليًّا — بدلًا من الاقتصار على تقييمهم وفق الشهادات الأكاديمية. ومع ذلك، يبقى هذا التحول تحديًا معقدًا أمام قادة الموارد البشرية، وقادة التعلم والتطوير، الذين يتعين عليهم إعادة تصميم استراتيجيات التوظيف والتدريب بما يتوافق مع هذا النموذج الجديد القائم على المهارة والقدرة على التعلم المستمر.

ثانيًا: ما الذي يدفع التحوّل من التركيز على الشهادات إلى التركيز على المهارات؟

إن التحول نحو التوظيف القائم على المهارات ليس مجرد اتجاه عابر، بل هو استجابة طبيعية للتغيرات المتسارعة في طبيعة العمل. وقد أشار المنتدى الاقتصادي العالمي إلى وجود مجموعة من المحركات الرئيسة التي تدفع نحو تبنّي اقتصاد المهارات، من أبرزها:

  • التحوّلات التكنولوجية: يمثل التغير التكنولوجي المحرك الرئيس لتحولات المهارات في السنوات القادمة؛ إذ تعزز تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والأمن السيبراني الطلب على مهارات جديدة، إلى جانب تنامي أهمية التفكير التحليلي والنظامي. وفي المقابل، تتراجع أهمية المهارات اليدوية والقدرات الأساسية كالقراءة والكتابة والرياضيات، مع تزايد التحول نحو الأتمتة، والذكاء الاصطناعي. ويكشف هذا التحول عن الأثر المزدوج للتكنولوجيا، فهي تخلق وظائف جديدة لكنها تُسرّع زوال أخرى؛ مما يفرض ضرورة إعادة تأهيل وتطوير المهارات لتمكين الأفراد من الجمع بين الكفاءات التقنية والقدرات البشرية في سوق عمل متغير.

  • التحول الأخضر: يكتسب الإشراف البيئي أهمية متزايدة باعتباره مهارة أساسية تعكس التوافق بين استراتيجيات الأعمال وأهداف الاستدامة. ويعود ذلك إلى تنامي جهود التكيف مع التغير المناخي، ومبادرات خفض الكربون، إلى جانب التطور في تقنيات توليد الطاقة وتخزينها وتوزيعها. هذه التحولات لا تجعل المهارات البيئية مطلبًا ضروريًّا في مختلف القطاعات فحسب، بل تمثل أيضًا عاملًا رئيسًا في تحقيق نمو صافٍ للوظائف بحلول عام 2030.

  • التحولات الديموغرافية: تُعد التحولات السكانية من أبرز العوامل المؤثرة في أنماط المهارات المطلوبة. ففي الاقتصادات المتقدمة، تؤدي شيخوخة السكان وتراجع القوى العاملة إلى زيادة الطلب على مهارات مثل: إدارة المواهب، والتعليم والإرشاد، والتحفيز والوعي الذاتي. ويصاحب ذلك تركيز متنامٍ على التعاطف والاستماع النشط، وإدارة الموارد، وخدمة العملاء، باعتبارها مهارات أساسية لبناء بيئات عمل أكثر شمولًا وتلبية احتياجات القوى العاملة الأكبر سنًا.
    وفي المقابل، تُسهم الزيادة في القوى العاملة الشابة في بعض المناطق في تعزيز هذه المهارات نفسها، خاصةً في قطاعات التعليم، والمبيعات، والضيافة. وتوضح هذه الاتجاهات الدور المزدوج للتحولات الديموغرافية، فهي لا تؤثر فقط على حجم الوظائف المتاحة، وإنما تحدد أيضًا نوعية المهارات الأكثر طلبًا عبر مختلف القطاعات.

وإلى جانب ذلك، تشير دراسات وأبحاث متعددة إلى مجموعة أخرى من العوامل المحفِّزة للتحول نحو اقتصاد قائم على المهارات، من بينها:

  • المنافسة العالمية على المواهب: مع انتشار العمل عن بُعد، أصبح بإمكان الشركات استقطاب الكفاءات من أي مكان في العالم، وتوفر المهارات وسيلة عادلة ومُوحدة لتقييم المواهب عبر الحدود الجغرافية والثقافية.

  • تغير توقعات العاملين: يسعى الموظفون اليوم إلى المرونة المهنية والتنقل الوظيفي، ويفضلون فرص التطور من خلال اكتساب مهارات جديدة، أو الانتقال الأفقي بين الوظائف، أو العمل في مشروعات متنوعة -وليس فقط من خلال الترقيات التقليدية.

  • تنويع وتوسيع قاعدة المواهب: من خلال إعطاء الأولوية للمهارات بدلًا من المؤهلات، حيث تتمكن الشركات من الوصول إلى مواهب متنوعة تشمل خريجي المعسكرات التدريبية المكثفة (Bootcamps)، والمتدربين المهنيين، والأشخاص الذين تعلموا بأنفسهم؛ مما يعزز الشمول والتنوع في بيئة العمل.

  • اتساع الفجوة المهارية: تشهد معظم الصناعات اتساع الفجوة بين متطلبات الوظائف وقدرات القوى العاملة، حيث تبقى العديد من الوظائف شاغرة ليس بسبب نقص المتقدمين، بل بسبب نقص المهارات المناسبة. ويُعد التوظيف القائم على المهارات وسيلة فعّالة لسد هذه الفجوة من خلال التركيز على الكفاءات المثبتة بغض النظر عن كيفية أو مكان اكتسابها.

ثالثًا: إعادة تشكيل المهارات المطلوبة في سوق العمل عالميًّا

عندما نُشر تقرير مستقبل الوظائف لأول مرة عام 2016 عن المنتدى الاقتصادي العالمي، توقّع أن نحو 35% من مهارات العاملين ستشهد تغيرًا ملحوظًا نتيجة التحولات التكنولوجية المتسارعة، وجائحة كوفيد-19. لكن ما بعد الجائحة شهد تكيف أصحاب العمل من خلال تبني الأدوات الرقمية، والعمل عن بُعد، والتقنيات المتقدمة مثل التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي التوليدي؛ مما منحهم خبرة أوضح لفهم المهارات الأساسية اللازمة لمواكبة التغيير التكنولوجي المتسارع.

وعلى الرغم من استمرار حالة عدم اليقين بشأن الأثر طويل المدى للذكاء الاصطناعي التوليدي، فإن وتيرة التغير المتوقعة في المهارات بدأت تستقر نسبيًّا، وإن ظلّت عند مستوى مرتفع. وبصورة عامة، يتوقع أصحاب العمل أن تتغير 39% من المهارات الأساسية للعاملين بحلول عام 2030، وفقًا لتقرير “مستقبل الوظائف 2025″، ورغم أن هذه النسبة تمثل تحولًا مهاريًّا كبيرًا، فإنها انخفضت مقارنةً بنسبة 44% في عام 2023.

ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى تزايد التركيز على التعلم المستمر، وبرامج رفع المهارات، وإعادة التأهيل المهني، ما مكّن الشركات من التنبؤ بشكل أفضل بمتطلبات المهارات المستقبلية وإدارتها. وينعكس ذلك في ارتفاع نسبة القوى العاملة التي أنهت تدريبًا ضمن استراتيجيات التعلم طويلة الأمد إلى 50% في عام 2025، مقارنةً بـ 41% عام 2023، وهو اتجاه لوحظ عبر معظم القطاعات الصناعية.

مع ذلك، يختلف مستوى التحول للمهارات بين الاقتصادات والقطاعات؛ إذ تميل الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل، إلى توقع تحول أكبر في مهارات العمال، في حين تتوقع الاقتصادات مرتفعة الدخل مستويات أقل من عدم الاستقرار.

أشار مسح “مستقبل الوظائف 2025” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن المهارات الأساسية التي يراها أصحاب العمل ضرورية للعاملين اليوم تتسم بتركيز متزايد على القدرات التحليلية والتفاعلية. وكما في الإصدارات السابقة من المسح، تصدّرت المهارات التحليلية قائمة المهارات الأكثر طلبًا، حيث اعتبرها سبع من كل عشر شركات أمرًا ضروريًّا، تلتها المرونة والقدرة على التكيف وسرعة الاستجابة، ثم القيادة والتأثير الاجتماعي.

ويبرز هذا الترتيب الدور الحاسم لمهارات قابلية التكيف والتعاون إلى جانب المهارات الإدراكية. كما احتل التفكير الإبداعي، والدافعية والوعي الذاتي المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي؛ مما يؤكد أهمية امتلاك قوة عاملة مرنة، ومبتكرة، وقادرة على التفاعيل بفعالية مع بيئة العمل المتغيرة. وتشير النتائج إلى أن حل المشكلات والقدرة على التحمل باتا عنصرين أساسيين للنجاح في سوق العمل الحديث.

وتُستكمل قائمة المهارات العشر الأهم بمهارات، مثل: الثقافة التكنولوجية، والتعاطف والإصغاء الفعّال، وحب الاستطلاع والتعلم المستمر، وإدارة المواهب، والتوجه الخدمي وخدمة العملاء، وهي مهارات تعكس الدور المهم للإتقان التقني، والقدرات التفاعلية القوية، والذكاء العاطفي، إضافة إلى الالتزام بالتعلم المستمر، بما يوضح توقّع المشاركين بضرورة أن يوازن العاملون بين المهارات الصلبة أو المهارات الفنية (Hard Skills) والمهارات الشخصية/ السلوكية (Soft Skills) لتحقيق النجاح في بيئات العمل الحالية.

بالنظر إلى تطوّر المهارات بحلول عام 2030، تشير التقديرات إلى أن بعض المهارات الأساسية الحالية ستواصل نموها بوتيرة متسارعة، مثل: الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، والتفكير التحليلي والإبداعي، والمرونة والقدرة على التكيف، والثقافة التكنولوجية، إضافة إلى القيادة والتأثير الاجتماعي، والتفكير النظامي، وإدارة المواهب؛ مما يؤكد تزايد أهمية المزج بين المهارات التقنية والبشرية في ظل التحولات التكنولوجية السريعة. كما برزت مهارات ناشئة مثل الأمن السيبراني، والمسؤولية البيئية التي يُتوقع أن تصبح أكثر أهمية رغم أنها ليست بعدُ أساسية في أغلب المنظمات.

في المقابل، ستظل مهارات مثل التعاطف والاستماع النشط، وخدمة العملاء، وإدارة الموارد والعمليات مستقرة دون نمو ملحوظ، بينما من المتوقع أن تتراجع الأهمية النسبية لبعض المهارات الأخرى، وهو ما يتيح للمنظمات إعادة توجيه استثماراتها نحو المهارات الأسرع نموًا والأكثر تأثيرًا في المستقبل.

رابعًا: تبنّي استراتيجيات قائمة على المهارات: نحو تحول مؤسسي ذكي ومستدام

يمثل تبنّي المنهج القائم على المهارات تحولًا جوهريًّا في إدارة المواهب داخل المؤسسات الحديثة، حيث أصبحت المهارات الفعلية — لا الشهادات أو المسميات الوظيفية — هي العملة الجديدة للعمل والقيمة المهنية، حيث يقوم هذا النهج على فهم دقيق للمهارات المتاحة داخل المؤسسة وتلك المطلوبة مستقبلًا، بما يتيح إعادة توزيع الموارد البشرية بمرونة وفقًا لاحتياجات العمل المتغيرة.

تستند قرارات التوظيف والتطوير في هذا النموذج إلى قدرة الفرد على الأداء والتعلّم، بدلًا من الاعتماد على المؤهلات الدراسية أو العلاقات الشخصية، وهو ما يعزز تكافؤ الفرص وتنوع القوى العاملة. وتشير أبحاث شركة “ديوليت” (Deloitte) إلى أن المؤسسات التي تعتمد هذا النهج تكون أكثر فاعلية بنسبة 107% في التوظيف المناسب، وأكثر ابتكارًا بنسبة 52%، وأقدر بنسبة 57% على التكيف مع التغيرات.

وبذلك، يعكس نموذج “المنظمة القائمة على المهارات” تحولًا بنيويًّا في منطق العمل المؤسسي، يجعل من الكفاءة والقدرة على التعلّم المستمر حجر الأساس في استدامة التنافسية والابتكار.

ومن هذا المنطلق، فقد يمثل التحول نحو نمط المنظمة القائمة على المهارات خطوة استراتيجية لإعادة بناء نظم إدارة المواهب وفق منطق جديد يجعل المهارات — لا المسميات الوظيفية أو المؤهلات — محور القرارات المؤسسية. ولتحقيق النجاح في ظل اقتصاد المهارات، يجب على المؤسسات أن تتجاوز الممارسات التقليدية للموارد البشرية وتتّبع استراتيجيات تربط بين قدرات القوى العاملة ومتطلبات العمل المتغيرة. وفيما يلي أربعة إجراءات لدعم التحول نحو اقتصاد المهارات:

1. تحليل الذكاء المهاري (Skills Intelligence):

يبدأ تبنّي استراتيجيات قائمة على المهارات من خلال تحليل الذكاء المهاري (Skills Intelligence)، أي بناء قاعدة بيانات دقيقة وشاملة للمهارات المتاحة داخل المؤسسة. وهنا يبرز دور الذكاء الاصطناعي في تحويل البيانات المتفرقة إلى مستودع مركزي يضم المهارات الحالية. كما يستطيع الذكاء الاصطناعي أيضًا تحديد المهارات المحتملة أو القابلة للتعلم استنادًا إلى ملف المهارات الحالي للفرد، بل ويمكنه تحديث الملفات تلقائيًّا عند اكتساب مهارات جديدة أو المشاركة في مشروعات مختلفة؛ مما يمكّن المؤسسة من فهم قدراتها الداخلية، وتحديد احتياجاتها المستقبلية بدقة.

2. تبنّي التوظيف القائم على المهارات :(Skills-Based Hiring)

يعتمد نجاح التحول على التوظيف القائم على المهارات (Skills-Based Hiring)، حيث تُمنح الأولوية للكفاءة العملية عند اختيار المرشحين بدلًا من المؤهلات الجامدة. ويُسهم هذا التوجه في تسريع عمليات التوظيف، وتعزيز المرونة في توزيع الأدوار والمشروعات، وتوسيع نطاق التوظيف الداخلي استنادًا إلى بيانات دقيقة حول مهارات العاملين.

3. بناء ثقافة التعلم وتطوير المهارات:

تقوم المؤسسة القائمة على المهارات على مبدأ الاستثمار في التعلم المستمر وتطوير القدرات، بما يعزز من إعادة التأهيل المهني ويتيح التنقل الداخلي للموظفين. ويُسهم هذا النموذج في جعل قسم التعلم والتطوير عنصرًا استراتيجيًّا يربط بين تنمية المهارات وتحقيق أهداف المؤسسة. كما يتطلب التحول نحو هذا النهج تغييرًا ثقافيًّا داخل المؤسسات، يقوم على كسر عزلة الفرق ورفض احتكار المواهب، وتشجيع المديرين على دعم انتقال الأفراد بين الأقسام، وإن تعزيز مهارات العاملين لا يزيد فقط من ولائهم وانخراطهم، بل يرفع أيضًا من قدرة المؤسسة على التكيف والنمو في بيئة عمل متغيرة.

4. تطبيق التكنولوجيا لإدارة المهارات:

أصبحت الأتمتة والذكاء الاصطناعي عنصرين أساسيين في بناء اقتصاد المهارات؛ حيث يتيحان تحديث قواعد البيانات المهارية بشكل مستمر وتعزيز دقة القرارات المتعلقة بالتوظيف وإدارة المواهب. ومن خلال تقنيات التحليل الذكي، يمكن تحديد الفجوات المهارية بشكل سريع، وربط الأفراد بالفرص الملائمة داخل المؤسسة وخارجها، بما يعزز من كفاءة فرق الموارد البشرية ويقلل من الهدر في الوقت والجهد. وإن تبني هذا النهج التكنولوجي لا يمثل مجرد تحسين إداري، بل تحولًا استراتيجيًّا يقود المؤسسات نحو نموذج أكثر استباقية ومرونة، قائم على البيانات والتعلم المستمر، ويجعل من قادة الموارد البشرية شركاء أساسيين في صياغة مستقبل العمل.

في المجمل، اقتصاد المهارات يعيد تشكيل جوهر العمل ذاته، ويمنح المؤسسات فرصة لبناء قوى عاملة أكثر مرونة، وعدالة، وتنافسية. أما النجاح فيه، فيتطلب توظيف البيانات، والتكنولوجيا، والثقافة التنظيمية الداعمة للتعلم والتجديد المستمر.

خامسًا: دور السياسات العامة في تمكين اقتصاد المهارات

وفقًا لتقرير صادر عن شركة (PwC) في عام 2022، أوضح أهمية دور السياسات العامة في تمكين اقتصاد المهارات، وذلك من خلال تحفيز العرض والطلب معًا. على جانب العرض، يمكن للحكومات توفير الحوافز والدعم المالي والتشريعات وتسهيل الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتوجيه التدريب نحو المهارات المطلوبة. وعلى جانب الطلب، يمكن للسياسات الصناعية دعم خلق وظائف جيدة وتحفيز الطلب على العمالة الماهرة.

وأكدت شركة (PwC) أنه لنجاح هذا التوجه، تحتاج الحكومات إلى رؤية استراتيجية قائمة على المهارات، مدعومة بثلاثة متطلبات أساسية: القيادة التحويلية، والحوكمة المرنة، والعمل التعاوني، بما يضمن انتقالًا ناجحًا نحو اقتصاد أكثر شمولًا واستدامة، ويؤمّن وظائف جيدة للأجيال القادمة.

كما تتطلب الرؤية الاقتصادية القائمة على المهارات قيادة تحويلية قادرة على تجاوز النمط التقليدي للسياسات التعليمية لتشمل مجالات أوسع مثل الإسكان، والضرائب، والرعاية الاجتماعية، واللوائح المهنية. ويُعد توضيح استراتيجيات المهارات على نطاق الاقتصاد أداة أساسية لإلهام المواطنين وطمأنتهم بشأن التحولات المستقبلية.

وفي ظل عالم سريع التغير، تبرز الحاجة إلى حوكمة مرنة تستند إلى سياسات ديناميكية يمكن تعديلها وفق المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، حيث لم يعد مناسبًا الاكتفاء بالسياسات الثابتة، بل أصبح من الضروري الاعتماد على البيانات الحديثة والابتكارات المستمرة.

كما أن العمل التعاوني يمثل ركيزة أساسية لنجاح أي استراتيجية قائمة على المهارات، حيث يسهم إشراك أصحاب المصلحة – من جامعات وقطاع أعمال وحكومات – في تعزيز فعالية السياسات. إذ يتيح هذا التعاون لأصحاب العمل تحديد احتياجاتهم من المهارات، ويمكّن العمال من الحصول على التدريب اللازم، ويحفز مزوّدي المهارات على تطوير برامجهم، فيما تضيف المؤسسات الأكاديمية والبحثية قيمة من خلال إمداد السياسات بأحدث الدراسات.

سادسًا: أبرز المبادرات المصرية لتعزيز المهارات والتأهيل لسوق العمل

تُولي الدولة المصرية اهتمامًا متزايدًا بتنمية المهارات البشرية كركيزة أساسية للتحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار. وفي ظل التحولات المُتسارعة التي يشهدها سوق العمل العالمي، تسعى الدولة المصرية إلى مواءمة مخرجات التعليم والتدريب مع احتياجات القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية الحديثة، بما يعزز تنافسية الكوادر الوطنية وقدرتها على الاندماج في سوق العمل المحلي والدولي.

وفي هذا الإطار، أطلقت الدولة مجموعة من المبادرات والبرامج النوعية التي تستهدف إعداد جيل من الشباب يمتلك المهارات الرقمية، والمهنية، والبيئية اللازمة لعصر التحول الرقمي والاقتصاد الأخضر. وتشمل هذه الجهود مبادرات تدريبية متخصصة، وشراكات مع القطاع الخاص والمنظمات الدولية، وبرامج وطنية تسعى إلى تمكين الشباب وبناء قدراتهم بما يواكب متطلبات التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030. وفيما يلي عرض لأهم هذه المبادرات والبرامج:

  • مبادرة “شباب مصر الرقمية – الجاهز للتوظيف”:

في إطار جهود الدولة لتأهيل الكوادر الشابة وتزويدها بالمهارات المطلوبة لسوق العمل الرقمي، أطلق المعهد القومي للاتصالات مبادرة شباب مصر الرقمية – الجاهز للتوظيف” الموجهة لخريجي السنوات الخمس الأخيرة؛ حيث تستهدف سد الفجوة بين التعليم الأكاديمي والمهارات العملية المطلوبة في مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، من خلال تنفيذ برامج تدريبية متخصصة بالشراكة مع أكثر من 75 شركة محلية وعالمية.

تشمل التخصصات المطروحة مجالات البنية التحتية للشبكات، والأمن السيبراني، وهندسة البرمجيات والاتصالات، والإلكترونيات والأنظمة المدمجة. وتوفر المبادرة مزيجًا من التدريب الفني والمهارات الشخصية ومهارات اللغة الإنجليزية ومهارات الأعمال، إلى جانب التدريب العملي داخل الشركات لاكتساب الخبرة الميدانية وزيادة فرص التوظيف المباشر.

وتأتي هذه المبادرة ضمن توجه الدولة نحو تعزيز اقتصاد المهارات، وبناء جيل من الكفاءات الرقمية المؤهلة للمنافسة في سوق العمل المحلي والدولي، من خلال الربط بين التدريب العملي واحتياجات القطاع الخاص، بما يسهم في دعم التحول الرقمي والتنمية المستدامة.

  • برنامج “مشواري” كنموذج لتمكين الشباب وبناء المهارات في مصر:

يُعد برنامج “مشواري” أحد أبرز المبادرات الوطنية الهادفة إلى تمكين الشباب وتأهيلهم لسوق العمل من خلال تطوير مهاراتهم الحياتية والمهنية وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال.

انطلق البرنامج عام 2014 كمنصة لتزويد الشباب بالمعرفة والمهارات التي تساعدهم على المنافسة في سوق العمل المحلي والعالمي، ويتماشى في أهدافه مع رؤية مصر 2030، وأجندة التنمية المستدامة، التي تضع الاستثمار في الإنسان في صميم عملية التنمية.

شهد البرنامج خلال السنوات الماضية توسعًا ملحوظًا على مستوى المحافظات، وازديادًا في أعداد المستفيدين، وتطورًا في المحتوى التدريبي بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل الحديث. كما أسهم في إعداد جيل من المدربين القادرين على نقل الخبرات وتنمية القدرات لدى الشباب؛ مما جعله نموذجًا لبرامج التنمية البشرية المتكاملة في مصر.

يُجسّد البرنامج فلسفة التحول نحو اقتصاد المهارات عبر التركيز على بناء القدرات العملية والمهارات القابلة للتطبيق، وليس فقط على المؤهلات الأكاديمية. وقد أثبتت التجربة نجاح هذا النهج في تعزيز فرص التشغيل الذاتي ودعم الابتكار وريادة الأعمال، في إطار سياسات الدولة الهادفة إلى بناء الإنسان وتنمية رأس المال البشري.

  • تنمية المهارات في إطار التحول نحو الاقتصاد الأخضر:

تتخذ الدولة المصرية خطوات جادة نحو دمج مفاهيم اقتصاد المهارات في استراتيجياتها الخاصة بالتحول إلى الاقتصاد الأخضر، من خلال تنفيذ مبادرات نوعية تستهدف إعداد القوى العاملة وتأهيلها بمهارات جديدة تتماشى مع متطلبات القطاعات المستدامة.

وقد جاء إطلاق دراسة مهارات الوظائف الخضراء في مصر، بالتعاون بين وزارة العمل ومنظمة العمل الدولية وبرنامج الأغذية العالمي، كأحد أبرز هذه الخطوات الرامية إلى دعم قدرة الدولة على تزويد سوق العمل بالمهارات اللازمة لتحقيق انتقال عادل نحو الاقتصاد الأخضر.
تركّز هذه الجهود على إعادة هيكلة سوق العمل بما يتواكب مع التحولات البيئية والتكنولوجية العالمية، عبر سياسات تهدف إلى تدريب العمال، وتأهيلهم للوظائف الناشئة في مجالات الطاقة المتجددة، وكفاءة استخدام الموارد، والتقنيات الزراعية المستدامة، وإدارة النفايات وغيرها من القطاعات المرتبطة بالاقتصاد الأخضر.

  • التعاون بين وزارة العمل المصرية وشركة “ابدأ إديو”:

في إطار تنمية المهارات وتأهيل الشباب على احتياجات سوق العمل، التقى السيد محمد جبران وزير العمل مع وفد من شركة “ابدأ إديو” التي تعد الذراع التدريبية للمبادرة الوطنية “ابدأ”، خلال سبتمبر 2025، وذلك لمتابعة المستجدات التنفيذية لبروتوكول التعاون بين الجانبين، وإدارة “الشركة” لعدد خمسة مراكز تدريب مهني تابعة لوزارة العمل، وعرض نظام الإدارة الإلكترونية، وخطط التسويق الخاصة بالتدريب المهني داخل المراكز الخمسة، واستعراض أهم المستجدات الخاصة بالبرامج المهنية وتطويرها؛ لتتوافق مع احتياجات سوق العمل المحلي والدولي، ومعايير الجودة الخاصة بالمراكز.

  • مبادرة “مستقبلنا رقمي (Egypt Fwd):

في إطار استراتيجية مصر الرقمية، أطلقت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مبادرة “مستقبلنا رقمي” وتدعمها هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات “ايتيدا”، والتي تهدف إلى تدريب 25 ألفًا من الشباب المصري على المهارات الرقمية المطلوبة لسوق العمل الحر والعمل عن بُعد، وذلك في مجالات تطوير الويب، وتحليل البيانات، والتسويق الرقمي. وتتميز المبادرة بتوفير تدريب مجاني عبر الإنترنت بمسارات متعددة (مبتدئ، محترف، متقدم)، بالإضافة إلى تنفيذ مشروعات تطبيقية واقعية ودعم استشاري وفرص توظيف فعلية بعد التخرج.

  • برنامج “أكاديمية المواهب المصرية”:

ينفذ برنامج “أكاديمية المواهب المصرية” المعهد القومي للاتصالات (NTI) بالتعاون مع شركة هواوي العالمية، وتهدف إلى إعداد جيل من المتخصصين في التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، تشمل المجالات التدريبية الأمن السيبراني، والحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، وشبكات الاتصالات، والذكاء الاصطناعي، حيث توفر الأكاديمية تدريبًا عمليًّا معتمدًا دوليًّا، ومستويات متدرجة من التدريب من المستوى الأساسي حتى المتقدم. وتستهدف الأكاديمية تدريب 15 ألف شاب مصري في جميع محافظات الجمهورية خلال خمس سنوات في أحدث المجالات التكنولوجية.

  • برنامج التأهيل للعمل الحر (ITIDA Gigs):

يُعد برنامج “التأهيل للعمل الحر” أحد المبادرات الرائدة التي أطلقتها هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (ITIDA) بالتعاون مع مؤسسة (EYouth)؛ بهدف تمكين الشباب المصري من الاندماج في سوق العمل الرقمي الحر وتعزيز قدراتهم التنافسية على المستوى العالمي.

يستهدف البرنامج تأهيل المشاركين من خلال تدريب مكثف يمتد لثلاثة أشهر، يزوّدهم بالمهارات التقنية والعملية اللازمة للعمل في مجالات الاقتصاد الرقمي والعمل المستقل (Freelancing). كما يتيح للمشاركين فرصًا عملية لتطبيق ما تعلموه من خلال الحصول على فرصة عمل رقمية مدفوعة الأجر واحدة على الأقل بنهاية فترة التدريب.

ويركز البرنامج على بناء جيل من الشباب القادر على العمل بفاعلية في بيئة العمل الرقمية العالمية، عبر تطوير مهارات التواصل، والإدارة الذاتية، والتسويق الرقمي، بالإضافة إلى تعزيز قدراتهم على التعامل مع المنصات الإلكترونية الخاصة بالعمل الحر.

وختامًا، أصبح اقتصاد المهارات اليوم أحد أبرز الركائز الأساسية لمستقبل العمل، إذ لم تعد الشهادات وحدها كافية لضمان التوظيف أو النجاح المهني؛ فامتلاك المهارات القابلة للتطبيق والتعلم المستمر والقدرة على التكيف مع التطورات التقنية هي العوامل الحقيقية للتنافس والنمو. ومن ثمّ، فإن تركيز الدول على تنمية رأس المال البشري، وبناء المهارات بات ضرورة حتمية لضمان استدامة التنمية، وتعزيز مكانتها في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة والتكنولوجيا

Leave A Reply

Your email address will not be published.