عبدالمنعم العمرابي | التعدين العشوائي يلتهم ذاكرة الشمال ويهدد هوية السودان

عبدالمنعم العمرابي

في أقصى شمال السودان، حيث يمتد النيل محتضناً مواقع أثرية تعود لآلاف السنين، تتكشف مأساة حضارية صامتة. مواقع نادرة تحمل ذاكرة شعوبٍ وحضاراتٍ قديمة، أصبحت اليوم في مهب الضياع بسبب التعدين العشوائي والنهب المنظم للآثار.

التحقيق الميداني والتقارير المحلية تؤكد أن مناطق دلقو وحلفا تحديداً تشهد أكبر موجة تعدٍّ على المواقع الأثرية في العقود الأخيرة. هناك، اختلط الذهب بالتاريخ، والجشع بالجهل، ليخرج مشهد قاتم يهدد ما تبقى من هوية السودان الحضارية.

مواقع أثرية خارج حماية اليونسكو

مواقع مثل “صلب، صادنقا، كدرمة، جزيرة صاي، جبل سيسة، بربة، وكدا موسى وقرقود، رسومات صخرية وتنري قلعة وجوقل حصن ايضا وفقو ودفوي اشو حصون كبيرة وتمبس اقجنندي اثاراته وكبودي ومسيدة الكنيسة  المشهورة ونوري وسبو” كل هذه المناطق تحمل بين أطلالها اثارات والبعض منها مقابر ملكية، بقايا منازل، شواهد جنائزية، وآثار من العصور الحجرية والنوبيـة والحقبات المختلفة من تاريخ الوطن والمنطقة. لكن المفارقة الصادمة أن معظم هذه المواقع لم تُسجل حتى الآن في قائمة اليونسكو، ولم تُوفَّر لها حماية رسمية كافية، مما جعلها عرضة مباشرة للتعدي لذلك نناشد الجهات الرسمية للسعي في تسجيلها.

توقف بعثات الآثار في بعض المواقع بسبب نشاط المعدنين كان بمثابة ناقوس خطر، لكن صرخات الباحثين والمهتمين بالتراث ضاعت في زحمة الإهمال الحكومي.

أحد الباحثين في الآثار قال لنا “لقد ضاعت فرص علمية لا تُقدر بثمن. المواقع التي نُهبت في صلب وكدرمة وجزيرة صاي كانت تكشف حلقات مهمة من تاريخ النوبة، لكن ما جرى أشبه بجريمة قتل للتاريخ”.

تورط أبناء المنطقة

المؤلم أكثر أن بعض أبناء المنطقة تورطوا في تسهيل هذه الجرائم، سواء عبر بيع القطع الأثرية أو إرشاد المعدنين إلى المواقع، أو حتى المشاركة المباشرة في التخريب. وهنا تبرز أسئلة صادمة:

كيف يشارك أبناء حضارة عريقة في طمس تاريخ أجدادهم؟

وهل أصبح الذهب أهون ثمناً من هوية أمة بأكملها؟

ما حدث لم يقتصر على المواقع الاثرية فقط بل طال حتى السواقي القديمة وممتلكات الأفراد، تحت زعم أنها “مواقع أثرية”، وهو ما يعكس حجم الجهل والخلط بين الإرث التاريخي والموروث المحلي.

الحكومة… غياب وتقصير

المسؤولية الأكبر تقع بلا شك على الحكومات السابقة التي تركت المواقع الأثرية في الشمال بلا صون ولا حماية. لم تُسجَّل رسمياً في اليونسكو والحكومات الحالية التي هي غائبة عن قصد ولم تُوفَّر لها حراسات إلا في المواقع الكبيرة مثل صلب وسيسة وكرمة اما بقية الاثارات بالزات في محلية هي عرضة للسرقات. ولم تُطلق برامج توعية للمجتمعات المحلية وربما هناك نافذين فيها يعملون في المجال نفسه.

السلطات كانت تتابع بحماس استخراج الذهب ومازالت ولكنها غضت الطرف عن نهب التاريخ، في مفارقة مؤلمة تكشف حجم الخلل في الأولويات.

جزيرة صاي: متحف مفتوح يتحول إلى ركام

جزيرة صاي تحديداً تمثل المثال الأوضح على حجم الكارثة. فهي تحتضن أشجاراً متحجرة، مواقع من العصر الحجري، مقابر، ومستوطنات قديمة تجعلها متحفاً مفتوحاً للتاريخ الإنساني. ومع ذلك، أصبحت الجزيرة ساحة مفتوحة للمعدنين والمهربين، حتى أن بعض مواقعها دُمرت بالكامل، وسط صمت رسمي وتواطؤ بعض من ابناءه.

خسارة لا تعوض

التعدين العشوائي قد يجلب ذهباً سريعاً، لكنه يسرق ما لا يُقدّر بثمن: التاريخ والهوية والذاكرة الجمعية. الخراب الذي حلّ بـ”كدرمة، صلب، صادنقا، وصاي” يعني ضياع مصادر أساسية لفهم التاريخ النوبي، وفقدان فرصة لاستثمار حضاري وسياحي كان يمكن أن يعود بالنفع على الوطن لعقود طويلة ناهيك عن الاثر البيئي المدمر، ما يجري في شمال السودان ليس نشاطاً اقتصادياً هامشياً، بل جريمة حضارية كبرى شارك فيها الإهمال الحكومي، والتواطؤ المحلي، والجشع العابر.

اليوم، لم يعد هناك متسع للسكوت. المطلوب:

  • تدخل عاجل لحماية ما تبقى من المواقع.
  • تسجيلها في قائمة التراث العالمي.
  • محاسبة المتورطين، سواء من المعدنين أو المتاجرين بالآثار.
  • إشراك المجتمعات المحلية في حماية تاريخها، بدلاً من التورط في تدميره.

فالتاريخ ليس ملكاً لجيل بعينه، ولا ميراثاً يباع في أسواق الذهب. إنه هوية وطنية وإنسانية، والتفريط فيه خيانة لا تغتفر.

Comments (0)
Add Comment