شئ للوطن
م.صلاح غريبة – القاهرة
Ghariba2013@gmail.com
دور الملحقية الثقافية السودانية في القاهرة كحارس للهوية ومُعزّز للتواصل الثقافي
شهدت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية مؤخراً الملتقى السنوي الأول للملحقين الثقافيين المعتمدين لدى مصر، هذا التجمع الهام الذي سلط الضوء على دور الثقافة كجسر للتفاهم وحصن للهوية وأداة فاعلة لبناء قنوات الحوار بين الشعوب.
في خضم هذه النقاشات، يصبح لزاماً علينا التركيز بإسهاب على الدور الحيوي الذي يمكن أن تضطلع به الملحقية الثقافية بالسفارة السودانية في القاهرة، ليس فقط تجاه الجالية السودانية الكبيرة في مصر، بل وكذلك في إثراء المشهد الثقافي المصري والعربي المتواجد على أرض الكنانة.
السودان، بأرضه المترامية وتاريخه الضارب في القدم، يُعد فسيفساء ثقافية فريدة؛ هوية تتشابك فيها الجذور الأفريقية بعمقها النوبي والكنوز الحضارية القديمة مع الروافد العربية والإسلامية. هذه الهوية الغنية، التي تتجلى في الموسيقى والإيقاعات، الأزياء والألوان النابضة بالحياة، الأدب والشعر، وفن العمارة العربي والافريقي والنوبي، تحتاج إلى حارس أمين ومُروّج نشط في الخارج.
في القاهرة، التي أصبحت بمثابة “السودان الأصغر” لاحتضانها جالية سودانية ضخمة، يبرز التحدي المتمثل في الحفاظ على هذا التراث من الذوبان، لا سيما بين الأجيال الشابة التي تنمو بعيداً عن الوطن الأم. وهنا يكمن الدور الجوهري للملحقية الثقافية: أن تكون بمثابة “البيت الثقافي الثاني” للجالية، و”نافذة السودان المشرقة” على المجتمع المضيف.
استناداً إلى ما أكده المشاركون في الملتقى حول ضرورة دعم الهوية الثقافية ودور الملحقيات، يجب أن تعمل الملحقية الثقافية السودانية عبر ثلاث دوائر متكاملة وهي:
خدمة الجالية السودانية بتثبيت الجذور ، بضرورة العمل الأساسي لتعزيز شعور الانتماء والهوية لدى أبناء الجالية.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنظيم او رعاية فعاليات دورية وإقامة أسابيع ثقافية سودانية، مهرجانات للموسيقى والرقصات الشعبية السودانية، ومسابقات فنية وأدبية تحفز على الكتابة الإبداعية المستلهمة من التراث السوداني، وإنشاء مكتبة ومُتحف مصغر بتوفير كتب ومجلات وأعمال فنية سودانية، وتوثيق وعرض نماذج من التراث المادي (الأزياء والحرف اليدوية) والموسيقى، لتكون مرجعاً حياً وذاكرة للجيل الجديد.
وتنظيم دورات لتعليم اللغة العربية باللهجة السودانية المميزة وتاريخ السودان، لربط الأطفال والشباب بلغة وتاريخ أجدادهم. هذا يوازي الجهد الذي أشارت إليه د. حنان يوسف في ذات الملتقى، حول شراكة المؤسسات الأكاديمية والمجتمع في بناء الهوية.
الثقافة تشكل جسراً للتفاهم. فالعلاقة السودانية-المصرية هي علاقة فريدة من نوعها، ضاربة في عمق التاريخ المشترك؛ فـ”نيل واحد يجمعنا”. يجب أن تستثمر الملحقية هذه الخصوصية لتقديم الثقافة السودانية كرافد غني يكمل المشهد الثقافي المصري والعربي، لا سيما في ظل التطور التكنولوجي وتوسع المنصات الرقمية من خلال شراكات أكاديمية وثقافية.
التعاون مع الجامعات المصرية، والمراكز الثقافية ودور النشر، لتنظيم ندوات مشتركة، ومعارض فنية متبادلة، والتعريف بالأدباء والمفكرين السودانيين، وإبراز القواسم المشتركة بتسليط الضوء على الروابط العربية والافريقية والنوبية والتاريخية التي تجمع البلدين، وتقديم الثقافة السودانية كجزء أصيل من الحضارة النيلية الكبرى، وتوظيف الثقافة في الأزمات للحفاظ على الذاكرة الجمعية خلال الأزمة السودانية الحالية، وتنظيم فعاليات تُعبر عن صمود الشعب السوداني وتماسكه.
الملتقى الذي استضافته الجامعة العربية هو دليل على أهمية العمل الثقافي العربي المشترك الذي أكد عليه المستشار يوسف مشاري. يجب أن تكون الملحقية شريكاً فاعلاً لا مجرد حاضر، والتعريف بالهوية الأفرو-عربية بتقديم السودان كنموذج للهوية الأفرو-عربية التي تدمج بين الأصالة العربية والعمق الإفريقي، ما يُثري مفهوم الهوية العربية الشاملة، والمشاركة في المعارض والملتقيات والحضور القوي والمميز في معارض الكتب الدولية والمهرجانات الفنية العربية التي تُقام في مصر، لتكون الثقافة السودانية حاضرة على الخريطة الثقافية العربية.
بناءً على الدور المحوري والمتعدد الأوجه للملحقية الثقافية في السفارة السودانية بالقاهرة، والذي يشمل تعزيز الهوية الثقافية للجالية وإثراء المشهد الثقافي العربي المشترك وإدارة الشأن التعليمي للجالية السودانية في مصر (عام وعالٍ).
ونظراً للعدد الكبير للجالية السودانية وتزايد حجم المهام، يُقترح تعزيز الكادر البشري للملحقية الثقافية في السفارة بتعيين مساعدين ومتخصصين في الشأن التعليمي (العام والعالي)، فمثلا متخصص أو مساعد للشأن التعليمي العالي (الجامعات والمعاهد والدراسات العليا) لمتابعة إجراءات قبول وتسجيل الطلاب السودانيين في الجامعات المصرية المختلفة، خاصة في ظل الظروف الحالية التي زادت من عدد الطلاب الوافدين. • معادلة الشهادات ومتابعة اللوائح والقوانين المتعلقة بالتعليم العالي في البلد المضيف.
ومتخصص أو مساعد للشأن التعليمي العام (المدارس السودانية والمراكز التعليمية الخاصة) وارشح إداري مدرسة الصداقة السودانية بالقاهرة لمتابعة أوضاع الطلاب السودانيين في المدارس والمراكز التعليمية السودانية والمصرية، والعمل على حل مشاكلهم التعليمية. • الإشراف على متطلبات الامتحانات السودانية داخل مصر وتوفير البيئة المناسبة لإجرائها.
تعيين متخصص في المجال الثقافي والتواصل الاجتماعي لتفعيل دور الملحقية كحاضنة للهوية من خلال تنظيم الأنشطة والملتقيات الفنية والأدبية بشكل دوري (كما نوقش في الملتقى السنوي الأول للملحقين الثقافيين). • بناء شراكات فاعلة مع المؤسسات الأكاديمية والثقافية المصرية والعربية، لتعزيز الحوار وتقديم الثقافة السودانية بصورة احترافية. • استخدام فعال للوسائط الإعلامية والمنصات الرقمية لتعزيز الوعي الثقافي.
في الختام، الملحقية الثقافية السودانية في القاهرة هي أكثر من مجرد مكتب دبلوماسي؛ إنها سفينة وطنية تحمل تراث أمة بأكملها. دورها اليوم ليس هامشياً بل جوهري، فهو يتعلق بـصيانة الذاكرة، تعزيز الانتماء، وبناء جسور التفاهم.
إن تفعيل دورها بالشكل الأمثل هو استثمار في مستقبل عربي متماسك ومزدهر، ينعم فيه الجميع، جالية ومجتمع مضيف، بغنى التنوع ووحدة المصير المشترك، وإن تعزيز مكتب الملحقية الثقافية بهؤلاء المتخصصين والمساعدين يضمن فعالية أكبر وتغطية أشمل لمسؤولياتها تجاه الجالية السودانية والمجتمع المضيف، مما يحوّل الملحقية إلى مركز حيوي يخدم رسالة السودان التعليمية والثقافية في الخارج بكفاءة عالية.