صباح الخير قراءنا الكرام،
في عالم تتسارع فيه التحولات على نحو غير مسبوق، لم تعد الاجتماعات الرسمية أو ارتداء الملابس الأنيقة هي الصورة الوحيدة للعمل الجاد وتحقيق الإنجاز. اليوم، قد تنطلق أعظم الأفكار من مقهى صغير، واحتساء فنجان للقهوة، وفي بيئات غير تقليدية، مثل المقاهي ومساحات العمل المشتركة، حيث تتحول الحوارات العابرة إلى مشاريع عابرة للحدود. هذا التحول للأعمال من المكاتب إلى فضاءات أكثر مرونة أصبح ظاهرة عالمية تعبّر عن صعود اقتصاد جديد قائم على الإبداع والرقمنة وريادة الأعمال، فلم تعد المكاتب هي رمز العمل، بل تحوّل الإنجاز إلى مساحة الإبداع الرقمي، لتعمل العقول الشابة من أي مكان لتبتكر وتنتج عبر شاشات مضيئة وأدوات رقمية وأفكار بلا حدود.
ومن أبرز التجليات لهذا الاقتصاد الجديد ما يُعرف بـ “اقتصاد الفلات وايت”، وهو مصطلح ظهر في بريطانيا، وخصوصًا في لندن، لوصف جيل جديد من روّاد الأعمال العاملين خارج الأطر التقليدية، ممن أسّسوا شركاتهم من المقاهي ومساحات العمل المشتركة، وجاءت التسمية من مشروب الفلات وايت الذي كان شائعًا في تلك المقاهي، حيث اعتاد روّاد الأعمال الشباب تناوله في أثناء العمل، ليصبح لاحقًا رمزًا ثقافيًّا يعكس انتقال ريادة الأعمال من المكاتب المغلقة إلى فضاءات أكثر مرونة وابتكارًا، ومع الوقت انتقلت هذه الظاهرة إلى عواصم عالمية أخرى، مثل: برلين، نيويورك، وسنغافورة، لتصبح نموذجًا لأسلوب جديد في ريادة الأعمال يعتمد على العمل المرن وبناء شركات تتخطى الحدود التقليدية للأسواق.
ويقف جيل زد وهو الجيل المولود بين عامي 1997 و2012، الذي نشأ داخل بيئة رقمية متكاملة محاطة بالهواتف الذكية ومنصات التواصل والتقنيات الحديثة، في قلب هذا التحول العالمي، ويعتبر “الجيل الرقمي” الأول فعليًا، الذي يتميز بالوعي العالمي، وسرعة التكيف، والقدرة على التعلم الذاتي، جيل يتبنى قيم الاستقلالية والاستدامة، ويميل إلى العمل الحر وريادة الأعمال، محوّلًا نمط حياته الرقمي إلى مصدر للإبداع والابتكار؛ إنهم لا ينظرون إلى العمل كمسار تقليدي داخل مؤسسات ضخمة، بل كمساحة لابتكار نماذج عمل حديثة، وتأسيس شركات ناشئة تعبّر عن اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار وريادة الأفراد.
وتؤكد الإحصاءات هذا التحول؛ ففي بريطانيا مثلًا: تسهم الشركات المدعومة برأس المال المخاطر والملكية الخاصة 199 مليار جنيه إسترليني من الناتج المحلي الإجمالي (أي ما يقرب من 7% من الناتج المحلي الاجمالي)، وتوفّر نحو 2.5 مليون وظيفة، أي 8٪ من إجمالي التوظيف.
كما يدعم الاقتصاد الرقمي وقطاعات التجارة الإلكترونية وحدها 2.6 مليون وظيفة في المملكة المتحدة، وتستحوذ على نصيب كبير من الإنفاق على البحث والتطوير؛ وهذه المؤشرات لا تعكس فقط نجاح النموذج البريطاني، ففي الولايات المتحدة الأمريكية بلغت إيرادات سوق البرمجيات نحو 194.17مليارات دولار أمريكي في عام 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى 676.46 مليار دولار بحلول عام 2034، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 12%، كما بلغ الإنفاق على البحث والتطوير 3.43% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022.
وفي الهند بلغت إيرادات سوق البرمجيات نحو 16.71 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن تصل إلى 47.57 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 18.8%. أما الإنفاق على البحث والتطوير في الهند فقد بلغ 0.64% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام المالي 2020-2021 مع جهود مستمرة لتعزيز الاستثمار في هذا القطاع.
أما إيرادات سوق البرمجيات في السعودية بلغت نحو 10.07 مليارات دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن تصل إلى 22.75 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 14.4%، بينما وصل الإنفاق على البحث والتطوير إلى 0.56% من الناتج المحلي في عام 2023، مع زيادة ملحوظة في الاستثمارات الحكومية في هذا المجال.
وتعكس هذه المؤشرات أن اقتصاد الفلات وايت أصبح محركًا عالميًا للنمو والابتكار، فرغم أن البرمجيات والبحث والتطوير تمثل ركيزة أساسية فيه، فإن تأثيره يمتد ليشمل مجالات رقمية أوسع، مثل التسويق الإلكتروني والإعلانات والخدمات الإبداعية؛ مما يعكس تحوّله إلى نموذج اقتصادي متكامل يقوم على المعرفة والابتكار.
-
القسم الأول: اقتصاد الفلات وايت… نموذج اقتصادي جديد بقيادة جيل زد.
-
القسم الثاني: الممارسات الدولية الرائدة في دعم ريادة الأعمال وتمكين رواد جيل زد.
-
القسم الثالث: صعود جيل زد كمحرك لريادة الأعمال في مصر.
|