د. إبراهيم عوض البارودي
سفير السودان بالنيجر يكتب :
دبلوماسية الخبز
هناك مبدأ في الاقتصاد الدولي يعرف ب International Division of Labour (NDL), أي تقسيم العمل الدولي وهو يقوم على قاعدة التميز لكل دولة على غيرها بمنتج اقتصادي يمنحها ميزة تفضيلية ويزيد من فرص الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض والتبادل التجاري مع دول العالم. فالمثال المعروف في علم الاقتصاد الدولي في هذا المجال هو تخصص فرنسا في انتاج القمح وألمانيا في صناعة السيارات.
وعادة ما يأتي هذا التميز في تقسيم العمل الدولي من توفر أسباب بيئية أو تقنية أو علمية تجعل دولة أكثر قدرة على انتاج سلعة معينة دون غيرها من الدول.
لو أردنا أن نسقط هذا المبدأ على السودان لوجدنا أن تميزه الذي لا ينازعه فيه أحد هو منتج الذرة الرفيعة. فقد عرف السودان منذ آلاف السنين بأنه المنشأ لزراعة الذرة الرفيعة المحصول التقليدي وغالب قوت أهله. وقد عرفت باسم حبوب الصحراء الذهبية لقدرتها الفائقة في تحمل الجفاف وقلة المياه في تربة رملية، وهو ما يوفره مناخ السافانا المدارية الغالب في أرض السودان. وإلى جانب كونها مصدر غذائي لأكثر من ٩٠ ٪ من أهل السودان (قبل دخول ثقافة القمح) فهي منتج مطلوب بشدة في العالم وقد ارتفعت أسعاره للحاجة المتزايدة له لمقابلة احتياجات كثير من دول العالم والمنظمات العاملة في مجالات الغذاء والعون الإنساني وأبرزها منظمة الأغذية العالمية التابعة للأمم المتحدة التي درجت على شراء كميات كبيرة من المتاح من الذرة في السودان، لتوفير الغذاء في مناطق النزاعات والكوارث.
أتيحت لي فرصة نادرة أن أكون أول سفير للسودان في أستراليا بين الأعوام ٢٠١٧ و ٢٠١٩ لأغوص في خفايا هذه الدولة القارة لأعثر على كنز ينفع أهلي في السودان. فقد لاحظت أن الاستراليين برغم الإنتاج الغزير لدولتهم من القمح فإنهم يبحثون عن بديل له لما ثبت من أضرار مادة الغلوتين الموجودة بالقمح، وما شهدته الطفرات الجينية المعدلة وراثيًا من القمح التي زادت من معدل الأمراض لديهم مثل السكري والبدانة ومقاومة الانسولين وغيرها. وقد لاحظت وجود أنواع من الخبز المصنع من غير القمح مثل خبز الشعير والأرز وغيره.
ساقني هذا الأمر لدخول المخابز والمطاحن إلى أن اهتديت إلى أسرة تصنع الخبز منذ القرن الثامن عشر وقد هاجرت إلى أستراليا من أوروبا وتوارثت صناعة الخبز كابرا عن كابر. فأخبرتهم عن الذرة في السودان وحاجتنا إلى أن نحيلها خبزا حتى أرجع إلى أهلى بالبشرى. طلبوا مني عينات من جميع أنواع الذرة في السودان، فأرسلت في طلبها لتأتيني مع صديق صحبة راكب الفتريتا، دبر، مقد وود عمر وغيرها. عدت بعد أيام لمصنع الخبز لأجد أمامي خبزا من كل أنواع الذرة السودانية فتذوقته وما عرفته، فقد استحال لخبز كامل الأوصاف والمذاق، ولمزيد من التأكد خشية أن تضل ذائقتي حملت منه لأهلي في البيت فأكلوا منه ما شاء الله لهم ولم يستبينوا فارقاً بينه وبين خبز القمح.
عدت للخبازين الأستراليين متسائلا عن ماذا فعلوا لذرانا حتى استحالت قمحا؟ نعم هذا هو السؤال الجوهري الذي يدور برأسك الآن أيها القارئ الكريم. أجابوني بأنهم وضعوا ٩٠٪ من الذرة ثم أضافوا لها مواد عضوية خالصة لا تحتوي على كيمياء في شكلٍ عجينة خالية من الغلوتين لتكون خبزا خالصا متماسكًا من غير سوء.
عدت من الخبازين والأرض لا تسعني من فرحة تخيلتها مرتسمة على شفاه أهلنا في البوادي والحضر وهم يأكلون خبزا من ما تنتج أرضهم، وتمزق الدولة فاتورة دولارية مليارية تذهب كل عام من خزينتها لتشتري من منتجي القمح ماوراء البحار قمحا بلا وعد ولا تمني. ونقلت لدولتي ما رأيت وذقت واستسغت وتمنيت، و رجوتهم دعوة الخبازين الثلاثة أصحاب الاختراع ليزوروا السودان ويلتقوا بالمسؤولين ويعرضوا عليهم اختراعهم ويخضعوا مادتهم المضافة للذرة لكل أنواع الاختبارات والفحص المعملي للتأكد من خلوها من أية مادة مؤذية للإنسان. ولشدة ما رأيت في هذا الأمر من خلاص وفلاح للسودان أخذت أتابع الأمر على كل المستويات عبر اتصالات ولقاءات واجتماعات مع كل الجهات المعنية، ولكن تكسرت كل الرجاءات والتوسلات على أبواب الوزارات والمؤسسات المعنية ولم تر تجربة خبز الذرة النور حتى يومنا هذا. والله المستعان.