شئ للوطن | صلاح غريبة يكتب …… “الفاشر بين الثبات الأسطوري والانسحاب النبيل: استراتيجية الحفاظ على الإنسان والوطن”
شئ للوطن
م.صلاح غريبة – مصر
Ghariba2013@gmail.com
“الفاشر بين الثبات الأسطوري والانسحاب النبيل: استراتيجية الحفاظ على الإنسان والوطن”
لقد نزل خبر الأوضاع في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، كالصاعقة على الشعب السوداني، مستعيدًا ذكريات أليمة لسقوط مدن أخرى. هذا الحدث الجلل، الذي وإن تباينت حوله الروايات في اللحظات الأولى، إلا أنه يكشف عن حجم التحديات التي تواجه السودان في خضم هذه الحرب الغاشمة، ويضعنا أمام مفترق طرق بين العاطفة الجياشة ومتطلبات الاستراتيجية العسكرية والوطنية العليا.
لقد أثبتت الفرقة السادسة بالفاشر، مدعومة بالقوات المساندة والشعب الصابر، ثباتًا أسطوريًا على مدى ما يقرب من عامين ونصف من الحصار والهجمات المتكررة. هذا الصمود، رغم شح الإمداد وغزارة الدعم العسكري الذي يتلقاه العدو من قوى إقليمية وأجنبية، هو بحق أشبه بالمعجزة، وضرب أروع الأمثلة في البسالة والوطنية. الفاشر ليست مجرد مدينة، بل هي أيقونة للصمود، ورمز الكرامة والعزة السودانية.
ولكن، عندما تتجاوز التضحيات حدود الطاقة البشرية، وعندما يصبح الثبات في موقع معين ثمنه دماء آلاف المواطنين العزل الذين يتعرضون لأبشع صور الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فإن على القيادة العسكرية والسياسية أن تتحلى بالشجاعة لاتخاذ القرارات الصعبة التي تضع سلامة المواطنين فوق كل اعتبار.
وهنا تحديدًا، يجب الإشارة إلى أن أي قرار بـانسحاب القوات المسلحة من الفاشر، أو إعادة تموضعها، لا يمكن أن يُفهم إلا في سياق الاستراتيجية الوطنية العليا التي تهدف إلى المحافظة على سلامة الأرواح وحمايتها من المجازر التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع الإرهابية، كما وثق بيان وزارة الخارجية.
البيانات الرسمية والمشاهد المروعة تؤكد أن المليشيا الإرهابية تُمارس القتل العنصري والترويع الممنهج، في فصول جديدة من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وفي ظل غياب الإرادة السياسية الدولية الفاعلة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وتسييس الأزمة وانحياز بعض الدول لمصالحها، يصبح الانسحاب التكتيكي في سبيل حفظ الأرواح هو قرار القيادة الحكيمة التي توازن بين متطلبات المعركة وحماية الشعب.
إن الهدف الأسمى للقوات المسلحة هو حماية المواطنين والدفاع عن سيادة البلاد ووحدتها، وهذا الواجب الدستوري يقتضي في بعض الأحيان إعادة التموضع لتجنيب المدنيين حمامات الدم، والاستعداد لمعركة شاملة وحاسمة في ظروف أفضل.
إن إصرار القوى الإقليمية والأجنبية على إسقاط الفاشر بأي ثمن، ليس هدفًا عسكريًا محدودًا، بل هو سعي لتحقيق أهداف استراتيجية خبيثة، تتراوح بين نهب الخيرات وفرض واقع على غرار ليبيا، أو بسط السيطرة على دارفور تمهيدًا لفصله أو استخدامه كورقة تفاوضية لعودة حكم المليشيا والقوى المدنية الموالية لها. هذا التمادي يستدعي من الشعب السوداني والقوات المسلحة الاستعداد لكل السيناريوهات وأخذ الأهبة اللازمة.
إن ما يحدث في الفاشر اليوم، وما سبقه في الجنينة والجزيرة، يؤكد أن هذه الحرب هي حرب وجود، وأن العدو لا يرقب في مواطني السودان إلاً ولا ذمة.
وعليه، فإن الواجب الوطني يحتم على الجميع دعم القيادة العسكرية والسياسية والالتفاف حولها في مواجهة هذا الواقع الجديد، فلديهم رؤيتهما وخططها للتعامل مع تحديات الحرب، والاستجابة لنداء القيادة العسكرية لفتح المعسكرات وإعداد المقاتلين، فالأمر يتطلب عودة روح النفرة الأولى لتقديم الأنفس والأموال لدعم القوات المسلحة، وتطبيقًا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
يتطلب المشهد الآن، الثبات المعنوي ورفض الشائعات والأكاذيب التي تبثها فضائيات العدو وكلابه، والتحلي بالبصيرة وعدم الانكسار، فالهزيمة الحقيقية تكمن في الوهن الداخلي والانكسار المعنوي بجانب التوحيد والاصطفاف والعودة للصف الواحد، جيشًا وشعبًا وقيادة، فـ”جيش واحد، شعب واحد، وطن واحد وقيادة واحدة” هو السبيل الوحيد لتحقيق النصر المبين.
إن انسحاب القوات في سبيل الحفاظ على المواطنين ليس هزيمة، بل هو خطوة تكتيكية نبيلة تُعلي من قيمة الإنسان السوداني، وتُعد بمثابة إعادة ترتيب للأوراق استعدادًا للمعركة الفاصلة. فالفاشر ستعود، وكل شبر دنسه الأوباش سيعود، وما على الشرفاء إلا أن يستعيدوا ثباتهم، ويوالوا الدعاء، ويعدوا العدة، فنصر الله آت، و {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، و {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}.
